مناظرة رئيس جمهورية كوبا، فيدل كاسترو روس، عبر التلفزيون الكوبي عن الوضع الدولي الراهن والأزمة الاقتصادية والعالمية وكيفية تأثيرها على كوبا. 2 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2001.
يا أبناء وطننا الأعزاء:
عند افتتاح مدرسة العمال الاجتماعيين في سنتياغو دي كوبا في الرابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر قلت بأنه لا بد من الحديث عن الوضع الاقتصادي الدولي وعن كيفية إلحاق هذا الوضع الأذى ببلدنا الذي يسير قدماً ببرنامج تطور اجتماعي لم يسبق له مثيل، بالقدر الذي يأخذ فيه بالخروج من الفترة الخاصة. لم أشأ الإطالة في تلك الكلمة.
في سبيل رسم صورة الوضع الحالي، يمكن التأكيد، بكلمات وجيزة جداً، بأنه في أواسط عقد التسعينات، عندما كانت العولمة النيوليبرالية آخذة بالانتشار في كل أنحاء الكرة الأرضية، حققت الولايات المتحدة، بصفتها المالكة المطلقة للمؤسسات المالية الدولية واعتباراً من قوتها السياسية والعسكرية والتكنولوجية الساحقة، أكبر تراكم استعراضي للثروة وللقوة عرفه التاريخ حتى اليوم.
ولكن العالم والمجتمع الرأسمالي كانا قيد الدخول في مرحلة جديدة بالكامل. جزء بالكاد يذكر من العمليات الاقتصادية كان ما يزال مرتبطاً بالإنتاج والتجارة العالميين؛ ثلاثة بلايين دولار في عمليات مضاربة، مرتبطة بالعملات وبغيرها من القيم، كانت تتم في كل يوم؛ أسعار الأسهم في الولايات المتحدة كانت تُنفخ كرغوة الصابون، بدون أي علاقة في كثير من الأحيان بعائدات وأرباح الشركات. قامت أوهام حقيقية: لن تحدث أزمات بعد اليوم؛ يمكن للسوق أن يحكم نظام حركته، فقد وفر الآليات اللازمة لتقدمه ونموه بدون توقف. لدرجة أن وصل الأمر لخلق ثروات وهمية صرف، وحصلت حالات لأسهم، سعر الواحد منها ألف دولار فقط، ارتفعت قيمتها 800 ضعف خلال ثماني سنوات فقط. كان الحال أشبه ببالون ينتفخ إلى ما لا نهاية.
وبما أنه كان يتم خلق هذه الثروات الافتراضية، كان يجري الاستثمار والإنفاق والإسراف. تم تجاهل التجربة التاريخية بالكامل. كان عدد سكان العالم قد تضاعف أربع مرات خلال مائة سنة فقط. آلاف الملايين من أبناء البشر لم يكونوا يشاركون في تلك الثروات ولا يستمتعون بها على الإطلاق. كانوا مجرد مصدر لليد العاملة الرخيصة، ولكنهم لا يستهلكون ولا يستطيعون التحول إلى مستهلكين. لم يكونوا يشكلون سوقاً، ولا كانوا البحر اللامتناهي تقريباً الذي ينتهي إليه النهر الهائل من المنتجات التي كانت تخرج ضمن تنافس شديد من المعدات الأكثر إنتاجية يوماً بعد يوم والأقل توفيراً لفرص العمل وتسيطر عليها مجموعة متميزة وضيقة من البلدان الصناعية.
كان يكفي إجراء تحليل أدنى من أجل الإدراك بأن ذلك الوضع لم يكن وضعاً قابلاً للديمومة.
يبدو أن لا أحد كان متنبهاً إلى أن بوسع أي شيء يحدث في اقتصاد إحدى مناطق العالم ويبدو غير هام ظاهرياً أن يهز باقي بنية الاقتصاد العالمي.
مهندسو العمارة والأخصائيون ومديرو النظام الاقتصادي الدولي الجديد واقتصاديون وسياسيون، بالقدر الذي تتفتت فيه أوهامهم، بالكاد كانوا يدركون بأنهم فقدوا السيطرة على الأحداث. إنها قوى أخرى هي التي تقرر: إنها قوة الشركات العابرة للحدود الكبرى والمتنامية الجبروت والاستقلالية والوقائع العنيدة بانتظار أن يتغير العالم فعلاً.
في شهر تموز/يوليو 1997 انفجرت أول أزمة كبرى في العالم النيوليبرالي المعولم. انهارت النمور. اليابان لم تتمكن بعد من الانتعاش والعالم ما يزال يعاني العواقب حتى الآن.
في شهر آب/أغسطس 1998 حدثت ما تسمى الأزمة الروسية التي، بالرغم من مساهمتها التي لا تذكر بإجمالي الناتج المحلي العالمي البالغ 2 بالمائة بالكاد، تسببت في هزة وخفّضت خلال ساعات قليلة قيمة أسواق العملات في الولايات المتحدة مئات النقاط.
في شهر كانون الثاني/يناير 1999، بعد خمسة أشهر فقط، وقعت أزمة البرازيل. مجموعة السبعة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي اضطروا لبذل جهود حثيثة ومضنية من أجل الحيلولة دون امتداد الأزمة إلى كل أمريكا الجنوبية، بما يوجه ضربة ساحقة لأسواق أسهم الولايات المتحدة.
هذه المرة جاء المحتوم: بدأت الأزمة في الولايات المتحدة، وبالكاد كانت ملاحظة في البداية. منذ منتصف عام 2000 بدأت تبان العوارض الأولى، بانخفاض مطرد لوتيرة الإنتاج الصناعي.
في شهر آذار/مارس من السنة ذاتها كان مؤشر "ناسداك" (Nasdaq) لما تسمى التكنولوجيا المتقدمة قد بدأ بالانحدار.
حدث أيضاً نمو هائل في العجز التجاري: كان في عام 1999 قد بلغ 264900 مليوناً، وارتفع في عام 2000 إلى 368400 مليوناً.
في الفصل الثاني من عام 2000 كان إجمالي الناتج المحلي قد حقق نمواً نسبته 5.7 بالمائة، وفي الفصل الثالث لم تتجاوز نسبة هذا النمو 1.3 بالمائة.
منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2000 بدأ إنتاج القطاع الصناعي بالانحدار.
غير أنه في نهايات عام 2000 كانت وجهات النظر حول آفاق الاقتصاد العالمي والتكهنات حوله ما تزال على نحو كبير من التفاؤل. سرعان ما بدأ الواقع يظهر عكس ذلك بجلاء.
منذ بدايات عام 2001 وجد كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية واللجنة الأوروبية، وكذلك مؤسسات خاصة، نفسها مضطرة لوضع تكهناتها للنمو المرتقب للعام 2001 في أدنى المستويات في مختلف المناطق.
في شهر أيار/مايو تكهن صندوق النقد الدولي نسبة نمو شامل قدرها 3.2 في عام 2001. بالنسبة للولايات المتحدة بالذات بلغت نسبة النمو المرسومة لذلك الشهر 1.5 بالمائة، وبلغت بالنسبة لمنطقة اليورو 2.4 بالمائة. كانت اليابان تعاوني رابع هبوط لها خلال عشر سنوات وكانت التكهنات تشير إلى انخفاض في نسبة النمو يبلغ 0.5 بالمائة في ذات السنة.
المدير العام لصندوق النقد الدولي، هورست كوهلير، أشار في خطاب ألقاه في جنيف أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة (ECOSOC)، في 16 تموز/يوليو 2001: "إن وتيرة النمو الاقتصادي آخذة بالانخفاض في كل العالم. يمكن لهذا أن يكون مزعجاً بالنسبة للاقتصاديات المتقدمة (البلدان الصناعية والغنية)، ولكنه سيكون مصدر حقيقي للصعوبات بالنسبة لبلدان كثيرة ذات أسواق ناشئة ونامية (البلدان الفقيرة والنامية) وتراجع في محاربة الفقر.
انخفض الإنتاج في معظم بلدان جنوب شرق آسيا، باستثناء الصين، وفي أمريكا اللاتينية. واستناداً إلى البنك الدولي، فإن نمو جنوب شرق آسيا، الذي بدأ بالانتعاش بعد انهياره المدهش في عام 1997، سينتقل من 7.6 بالمائة من عام 2000 إلى 4.5 بالمائة هذه السنة، وستنمو القارة الأمريكية بنسبة 2 بالمائة، أي نصف ما حققته من نمو في عام 2000.
مؤسسات أخرى أجرت تكهناتها أيضاً. رأت مجلة "ذي إكونوميست" (The Economist) في شهر نيسان/أبريل بأن من شأن النمو العالمي في عام 2001 ألا يحقق إلا 2.7 بالمائة، الأمر الذي يتعارض مع النتيجة المحرزة في عام 2000 والبالغة 4.6 بالمائة، في حين أن التبادل التجاري في العالم من شأنه أن ينمو بنسبة 3.5 بالمائة، مقابل 13.4 في عام 2000.
بالنسبة لمنطقة اليورو، قدّرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في تقريرها نصف السنوي الصادر في بداية أيار/مايو 2001 بأن الاتحاد الأوروبي سينمو بنسبة 2.6 بالمائة، الأمر الذي ينطوي على تراجع نسبته 0.5 نقاط في خطتها الأولية.
في العاشر من أيلول/سبتمبر، قبل يوم واحد فقط من أحداث نيويورك وواشنطن، نظر صندوق النقد الدولي في سير تكهنات نمو الاقتصاد العالمي والولايات المتحدة وأوروبا واليابان على الشكل الآتي:
الاقتصاد العالمي بالنسبة المئوية من النمو:
خريف عام 2000 4.2
آذار/مارس 2001 3.4
ربيع 2001 3.2
أيلول/سبتمبر 2001 2.7
كان آخذ بالانحدار تدريجياً من 4.2 إلى 2.7 خلال أقل من سنة واحدة.
الولايات المتحدة:
خريف عام 2000 3.2
آذار/مارس 2001 1.7
ربيع 2001 1.5
أيلول/سبتمبر 2001 1.5
ذات الشيء، من 3.2 إلى 1.5 في نفس الفترة.
اليابان:
خريف عام 2000 1.8
آذار/مارس 2001 1.0
ربيع 2001 0.6
أيلول/سبتمبر 2001 0.2
الأرقام تتحدث بنفسها.
منطقة اليورو:
خريف عام 2000 3.4
آذار/مارس 2001 2.7
ربيع 2001 2.4
أيلول/سبتمبر 2001 1.9
كانت وتيرة نمو المراكز الكبرى الثلاثة للاقتصاد العالمي، بدون أي استثناء، آخذة بالانخفاض إلى أقل من النصف خلال أقل من سنة. في حالة اليابان الخاصة، انخفضت هذه النسبة إلى صفر تقريباً.
وضع العمالة:
في نهايات عام 2000 لم تكن نسبة البطالة في الولايات المتحدة تبلغ إلا 3.9 بالمائة. كيف سار عليه الحال في عام 2001؟
نسبة البطالة (بالمائة):
شباط/فبراير 4.2
آذار/مارس 4.3
نيسان/أبريل 4.5
أيار/مايو 4.4
حزيران/يونيو 4.5
تموز/يوليو 4.5
آب/أغسطس 4.9
مع أن المعلومة الرسمية لا تُعرف بعد، يقدَّر بأن نسبة البطالة أصبحت تصل إلى 5.1 بالمائة، وهي نسبة لم تسجّل في الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة.
واليوم، الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، بعد صياغة هذه المادة، نُشر الرقم الرسمي، وهو 5.4. خلال شهر واحد فقط ضاع 415 ألف فرصة عمل. إنه أكبر تقليص محض لعدد العمال منذ شهر أيار/مايو من عام 19980، قبل 21 سنة.
إن اتجاه نسبة البطالة هو تعبير جلي عن التدهور الذي كان هذا الاقتصاد بالذات يعانيه في اللحظات السابقة للهجمات الإرهابية.
كسابقة هامة يجب الأخذ بعين الاعتبار بأنه خلال السنوات الخمسين الأخيرة، حين بلغت نسبة البطالة 5.1 بالمائة إنما كان يتوافق ذلك مع بداية فترة هبوط.
النسبة المئوية للقدرة الصناعية المستخدمة في الولايات المتحدة في عام 2001:
شباط/فبراير 79.2
آذار/مارس 78.7
نيسان/أبريل 78.4
أيار/مايو 78.0
حزيران/يونيو 77.1
تموز/يوليو 77.0
آب/أغسطس 76.4
في شهر آب/أغسطس انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 0.6 بالمائة بالمقارنة بما تم إحرازه في شهر تموز/يوليو. وفي الاثني عشر شهراً الأخيرة كان الإنتاج الصناعي قد عانى من تقلص بلغ حوالي 5 بالمائة. مع معلومة شهر آب/أغسطس يصل إلى 11 شهراً متعاقباً من التقلص.
الرقم المسجل في آب/أغسطس قريب جداً من المستوى الأكثر انخفاضاً منذ عام 1983.
في شهر آب/أغسطس 2001 حدث عجز في الموازنة بقيمة 80 ألف مليون دولار.
في ذلك الشهر نفسه كان أعضاء الكونغرس الديمقراطيون قد بدأوا يشيرون إلى أن التكهنات تدل على أن الحكومة ستضطر لاستخدام جزء من أموال الضمان الاجتماعي من أجل تمويل النفقات الجارية.
خلال الفصل الثاني من عام 2001 انخفضت الواردات الأمريكية إلى 13900 مليون دولار، في حين أن المستوى المنخفض للنشاط في بقية العالم ساهمت في تقليص الصادرات، التي بلغت 9100 مليون دولار.
قيمة أسهم المؤشرات الرئيسية للبورصة خلال عام 2001 انخفضت على الشكل الآتي:
دوو جونز (Dow Jones) 18.06%
ناسداك (Nasdaq) 66.42%
ستاندارد أند بورز (S&P) (Standard & Poor’s) 28.48%
يعادل ذلك خسارة بلايين الدولارات خلال سنة واحدة.
خلال عام 2001، قام الاحتياط الفدرالي بتخفيض نسب الفائدة تسع مرات. الغاية من ذلك هي تخفيض كلفة الأموال ودعم ثقة المستهلك، وبهذه الطريقة دفع عجلة النشاط الاقتصادي. وهذه الدورية المحتدمة تعبر عن اليأس.
أوروبا:
أبدى الإنتاج الصناعي في المنطقة الأوروبية انخفاضاً متواصلاً خلال النصف الأول من عام 2001. وهذا الانخفاض يجبر الشركات على تقليص أطقم العمل، وهذا بدوره يقلص الاستهلاك، لتقوم بذلك حلقة مفرغة من الانخفاض.
الاستثمار والاستهلاك انخفضا، ليتفاقم بذلك الاتجاه نحو الهبوط.
المفوض الأوروبي للشؤون النقدية صرح بأن اقتصاد أوروبا لن ينمو إلا 1.5 بالمائة هذه السنة، ومعاهد البحث الاقتصادي الستة الأشهر في ألمانيا خفّضت نمو هذا البلد إلى 0.7 بالمائة خلال العام الحالي و 1.3 بالمائة في العام القادم، معلنةً بأن الاقتصاد الألماني هو على حافة الهبوط، مما يعود بأثر سلبي قوي على أوروبا، ذلك أن ألمانيا تعتبر "قاطرتها الاقتصادية".
اليابان:
هبط إجمالي الناتج المحلي الفعلي خلال الفصل الأول من العام 2001 في اليابان أكثر بكثير مما كان متوقعاً، حيث بلغ 0.2 بالمائة مقابل تكهن بانخفاض نسبته 0.1 بالمائة، في حين أنه انخفض في الفصل الثاني بنسبة أخرى بلغت 0.8 بالمائة.
بدأ الإنتاج الصناعي في شهر آذار/مارس هبوطاً كان قد بلغ في شهر آب/أغسطس 11.7 بالمائة. وهذه الظاهرة المتمثلة في ستة أشهر متعاقبة من تراجع الإنتاج الصناعي لم يشهدها الاقتصاد الياباني منذ الفترة الممتدة بين شهري كانون الأول/ديسمبر 1991 وأيار/مايو 1992 وتضع الإنتاج الصناعي في مستواه الأكثر انخفاضاً خلال السنوات الأخيرة، مما يعني أزمة أسوأ من الأزمة المالية لعامي 1997-1998، حسبما يرى محللون يابانيون.
الفائض التجاري لليابان انخفض بنسبة 48 بالمائة في شهر تموز/يوليو من هذه السنة.
كإجراء دفاعي تقوم الشركات بتخفيض عدد عمالها، ولذلك فإن نسبة البطالة ارتفعت أيضاً لتصل إلى أعلى مستوى تاريخي لها وهو 5 بالمائة في شهر آب/أغسطس من هذه السنة، وهذا ما لم تشهده اليابان أبداً من قبل.
أمريكا اللاتينية:
في شهر آب/أغسطس أبلغت اللجنة الاقتصادية الخاصة بأمريكا اللاتينية والكاريبي (CEPAL) بأن المنطقة لن تنمو إلا 2 بالمائة في عام 2001، متراجعة بذلك عن تكهنها السابق، الذي نُشر في شهر أيار/مايو، حيث تحدثت عن زيادة لإجمالي الناتج المحلي يتراوح بين 2.7 و 3 بالمائة.
وحسبما ذكرت فإن ذلك يعود إلى الضعف العالمي وإلى اضطراب بعض البلدان الأساسية في المنطقة: بيرو وأوروغواي لن تشهدا نمواً؛ البرازيل تضررت من شح مؤنها الطاقية الذي ضرب نشاطها الإنتاجي وانخفاض قيمة عملتها بنسبة 40 بالمائة تقريباً في هذه السنة؛ وشيلي كبحت عجلة انتعاشها. في حال المكسيك، يؤمل نمواً اقتصادياً ضعيفاً يبلغ 0.13 بالمائة هذه السنة و 1.74 بالمائة في العام 2002. خططت الحكومة في الأصل لتحقيق نمو نسبته 4.5 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي خلال عام 2001، ولكنها أعادت النظر بهذه النسبة في مناسبات عدة بسبب انخفاض وتيرة الاقتصاد العالمي، وبشكل خاص في الولايات المتحدة.
ترى اللجنة الاقتصادية الخاصة بأمريكا اللاتينية والكاريبي بأن نسبة البطالة سترتفع في المنطقة بنسبة 8.5 بالمائة كحد أدنى.
يكثر بعض الأشخاص من الحديث اليوم بكل نفس هادئة عن "الأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن الأعمال الإرهابية التي وقعت في الولايات المتحدة في 11 أيلول/سبتمبر وعن الحرب التي بدأت في 7 تشرين الأول/أكتوبر ضد أفغانستان". لا يقوم هذا التأكيد على أي أساس. وما ذكرته للتو يثبت ذلك على نحو لا يقبل التأويل. إن الأزمة كانت آخذة بالحدوث بلا رادع.
أستلم في العادة نشرة أسبوعية تحتوي على أهم الأنباء ذات الطابع الاقتصادي القادمة من أشهر مصادر المعلومات وأكثرها ثقة، أو تصريحات حرفية لأخصائيين وزعماء سياسيين. تذكرت بشكل خاص نشرة تلقيتها بتاريخ 8 أيلول/سبتمبر 2001، قبل ثلاثة أيام بالضبط من المأساة الكبرى التي حدثت في نيويورك. لم أقرأ خلال سنوات كثيرة أنباء أسوأ من تلك عن آفاق الاقتصاد الدولي في نشرة واحدة.
حملني الفضول على العودة لمراجعتها. ومن بين ما ورد فيها اخترت عدداً من الأنباء التي تقول حرفياً:
"أعلنت هيتاشي ليمتد، وهي أكبر شركة مصنِّعة للمنتجات الإلكترونية في اليابان، بأنها ستستقطع هذه السنة 14500 وظيفة، ما نسبته 4 بالمائة من عدد موظفيها، في حين تستعد لخسارة أكثر من ألف مليون دولار نتيجة هبوط القطاع التكنولوجي".
"والشركات اليابانية الكبرى المنتجة للموصّلات الدقيقة ‘توشيبا كوربوريشين‘ (Toshiba Corp.) و‘أن إي سي كوربوريشين‘ (NEC Corp.) و‘فوجيتسو ليمتد‘ (Fujitsu Ltd.) نبهت أيضاً إلى أنها تفكر باستقطاع آلاف الوظائف". (سي أن أن، 31/8/2001)
"أعرب رئيس الاحتياط الفدرالي للولايات المتحدة بأن ارتفاع أسعار المساكن في نفس الوقت الذي انهار فيه سوق الأسهم، يتسبب بصعوبات للمصرف المركزي في تشخيص وضع اقتصاد البلاد. وصرح بأنه ‘يمكن أن يكون لهذا التباين مضاعفات هامة‘ بالنسبة للنمو الاقتصادي للبلاد". ("ذي وول ستريت جورنال"، 31/8/2001)
"نبه الاحتياط الفدرالي الأمريكي في تقريره الأخير الهيئات المصرفية في البلاد إلى أنها لم تعزز على نحو كافٍ أنظمة سيطرتها على المخاطر حسبما تُلزم بذلك حالة التراجع التي يعيشها الاقتصاد العالمي". (صحيفة "سينكو دياس" الإسبانية، 3/9/2001)
"اعترفت اللجنة الأوروبية يوم أمس بأن النمو الاقتصادي المتوقع لمنطقة اليورو لهذه السنة سيكون دون ال 2.5 بالمائة. هذا ما اعترف به مفوض الاقتصاد والمال، بيدرو سولبيس، الذي أعرب أيضاً بأن بروكسل لديها ‘بعض الشكوك‘ حول هذا الرقم. وقد جاء تخفيض 4 نقاط من هذه النسبة، والذي أعلنه رئيس المصرف المركزي الأوروبي في الأسبوع الماضي، مترافقاً باعتراف صريح بخطأ حسابي. وقال دويسينبيرغ شارحاً: ‘ما قللنا من شأنه هو ما عليه حالة الهبوط من حدة وطول أمد في الولايات المتحدة‘. وعند تذكره آراء وزير الخزينة، باول أونيل، قال: ‘إذا كان بإمكاني أن أقول شيئاً، فهو أننا، ومعنا سلطات الولايات المتحدة أيضاً، جنحنا نحو التفاؤل المبالغ فيه حول مدة وعمق حالة الهبوط.
إن صعوبات التوجه عند المصرف المركزي الأوروبي مدرجة في هذا التحليل الذي يخلو من المواربة، ويصل متأخراً بعض الشيء بعد التقليص التدريجي من 3.2 بالمائة من تقدير النمو لمنطقة اليورو، المبلورة في شهر كانون الثاني/يناير، إلى نسبة ال 2 بالمائة التي تم تقييمها في هذه الأيام". (صحيفة "سينكو دياس" الإسبانية، 3/9/2001)
"اعترف رئيس الولايات المتحدة بقلقه إزاء استمرار ضعف النشاط الاقتصادي الأمريكي وآثاره على سوق العمالة. وأكد أمام اجتماع لمجموعات نقابية: ‘إنني أعي المشكلات التي تواجهها عائلات العمال المتضررين من الأزمة الاقتصادية، ولكنني على قناعة بأن الاقتصاد سيجتاز هذا الحاجز‘.
باقتصاد على حافة الهبوط، حاول الرئيس إقناع العمال الأمريكيين بأنه يعرف وضعهم وأنه عاكف على فعل شيء من أجل حل هذا الوضع. القضية معقدة، ضعف ثقة المستهلكين، وانخفاض الأسواق المالية والنمو الطفيف للقوة العظمى العالمية جعلوا القضايا الاقتصادية تطغى على جدول أعمال الرئيس". (صحيفة "إيكسبانسيون" الإسبانية، 4/9/2001)
ليلاحظ بأن الرئيس بوش، الذي لا يهوى كثيراً هذه المواضيع، أدلى بتصريحه قبل أسبوع واحد من 11 أيلول/سبتمبر.
"النمو متوقف عملياً في أمريكا اللاتينية حسب معطيات إجمالي الناتج المحلي للنصف الأول من السنة".
"محصلة عام 2001 ستتمخض عن انخفاض جديد لإجمالي الناتج المحلي مقابل الفرد في المنطقة، حسبما يؤكد بنك بيلباو فيسكايا أرخينتاريا في تقريره الأخير عن أمريكا اللاتينية. لقد خفّضت هذه الهيئة تكهنها للنمو لمجموع هذه البلدان من 3.9 بالمائة في البداية إلى واحد بالمائة، وهو مستوى غير كافٍ من أجل التساوي مع نسبة نمو عدد السكان.
لا بد من البحث عن أسباب هذا التشاؤم الأكبر في الهبوط العالمي الذي يتجاوز تقديرات بداية السنة".
لقد ترجم ضعف نمو الاقتصاديات الرئيسية نفسه في تقلص شديد للطلب الخارجي، وبالتالي للصادرات أيضاً في أمريكا اللاتينية.
"الاقتصاد المكسيكي هو الاقتصاد الذي تعرض لأشد النتائج وطأة، وذلك بالنظر لاعتماده الكبير على النشاط الصناعي للولايات المتحدة. سيقلص هذا نموها في السنة الحالية إلى 0.2 بالمائة –حسب هذه الهيئة- مقابل 6.9 بالمائة سُجل في عام 2000". (صحيفة "سينكو دياس" الإسبانية، 4/9/2001)
"عدد العمال الذين أُعلن عن طردهم في الولايات المتحدة أصبح يتجاوز المليون منذ بداية هذا العام، رغم أن وتيرة الاستقطاعات كُبحت في آب/أغسطس. كمجموع كلي، أعلنت الشركات الأمريكية عن خطط لإلغاء 140019 وظيفة خلال هذا الشهر. يقل هذا الرقم بما نسبته 32 بالمائة عن مثيله في شهر تموز/يوليو، ولكنه يشكل ضعف الاستقطاعات التي سُجلت في شهر آب/أغسطس من عام 2000. على هذا النحو يصل المجموع المتراكم في الأشهر الثمانية الأولى إلى مليون و120 ألف وظيفة ملغاة، ما يزيد عن الاستقطاعات التي أجريت خلال كل عام 2000 بنسبة 83 بالمائة. ما يزال قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية القطاع الأكثر تضرراً، حيث ألغيت ما نسبته 19 بالمائة من وظائفه منذ بداية هذا العام". (صحيفة "سينكو دياس" الإسبانية، 5/9/2001)
"إلى جانب المشكلات الكبيرة في الموازنة التي تعانيها ألمانيا وإيطاليا، وأكثرها ضعفاً عند إسبانيا، تأتي مشكلات فرنسا، التي ارتفع عجز صندوقها إلى 16 بالمائة خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة. (صحيفة "إيكسبانسيون" الإسبانية، 5/9/2001)
"اعترف وزير الاقتصاد الألماني، فيرنير مولير، بأن نمو إجمالي الناتج المحلي عند العملاق الألماني لن يصل هذا العام إلى نسبة ال 1.5 بالمائة. ولم يكن قد اعترف حتى هذه اللحظة إلا بأن النمو سيكون ‘دون الاثنين بالمائة‘. وتعني تصريحات مولير صب دلو جديد من الماء البارد على الذين كانوا يراهنون على انتعاش عاجل للاقتصاد الألماني". ". (صحيفة "سينكو دياس" الإسبانية، 5/9/2001)
حين بدأت الصناعة في الولايات المتحدة تشهد بعض العلامات الإيجابية من الانتعاش، أصبح قطاع الخدمات هو الذي يأخذ على عاتقه اليوم صب دلو من الماء البارد على الآمال المعلقة. واستناداً إلى معلومات أوردتها الجمعية الوطنية لمدبري المشتريات فإن نشاط قطاع الخدمات قد عاد إلى الانقباض في شهر آب/أغسطس. انتقل مؤشر نشاطه الشهري من 48.9 في شهر تموز/يوليو إلى 45.5 نقاط في شهر آب/أغسطس، الأمر الذي يفترض الشهر الثاني على التوالي من وجوده دون مستوى الخمسين نقطة، الذي يعتبر الخط الفاصل بين الهبوط والنمو. في شهر آب/أغسطس حدث انهيار قوي للطلبات الجديدة، مما يشير إلى تدهور شديد للنشاط خلال الأشهر المقبلة. والرقم الفعلي تجاوز بأضعاف تكهنات المراقبين، الذين كانوا يتوقعون تقلصاً أدنى يصل حتى 48 نقطة". (صحيفة "سينكو دياس" الإسبانية، 6/9/2001)
استناداً إلى معلومات قدمها صندوق النقد الدولي، فإن هناك ما بين 500 ألف مليون ومليون ونصف المليون دولار –ما بين 1.5 بالمائة و 4.5 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي- التي تولدها نشاطات غير شرعية سنوياً يتم غسلها من خلال النظام المصرفي". (صحيفة "إل باييس" الإسبانية، 6/9/2001)
"خفض البنك المركزي للملكة المتحدة قبل فترة وجيزة تقديراته لنمو إجمالي الناتج المحلي إلى 2 بالمائة لعام 2001، وهو المستوى الأدنى منذ الهبوط المسجل في بداية أعوام التسعينات". (صحيفة "سينكو دياس" الإسبانية، 6/9/2001)
"نبهت وكالة موديز ‘Moody’s‘، (المتخصصة في دراسة المخاطر وتعتبر رائدة عالمية في هذا المجال)، يوم أمس من احتمال تخفيض قيمة السندات اليابانية المستقلة".
"سيتم اليوم الإعلان عن معلومة إجمالي الناتج المحلي للنصف الثاني من السنة وتشير تكهنات المراقبين إلى أنها تعكس انخفاضاً نسبته ما بين 0.9 بالمائة و1 بالمالئة. وإذا حصل ذلك، فإن الاقتصاد سيدخل فنياً في حالة ركود بعدما انقبض إجمالي الناتج المحلي بين شهري كانون الثاني/يناير وآذار/مارس بنسبة 0.2 بالمائة. وتنظر المعلومة بشك إلى مستقبل الاقتصاد الثاني في العالم في إطار تراجع شديد في الحركة نتيجة ضعف الولايات المتحدة". (صحيفة "سينكو دياس" الإسبانية، 7/9/2001)
كما يمكن الملاحظة، ليست الأزمة الاقتصادية محصلة هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر والحرب على أفغانستان. لا يمكن تأكيد ذلك إلا نتيجة جهل أو اهتمام بإخفاء السبب الحقيقي. الأزمة هي محصلة الفشل الذريع وغير القابل للعودة للوراء لمفهوم اقتصادي وسياسي مفروض على العالم: النيوليبرالية والعولمة النيوليبرالية.
لم يتسبب العمل الإرهابي والحرب بالأزمة وإنما يجعلانها أكثر خطورة بكثير. ما كان آتٍ على نحو متسارع حدث بشكل غير ملائم ومفاجئ. على البشرية أن تواجه الآن ثلاث مشكلات بالغة الخطورة، والتي تعزز كل واحد منها الأخرى: الإرهاب، والحرب، والأزمة الاقتصادية.
الأزمة الاقتصادي تعني، بالإضافة لذلك، تفاقم مشكلات بالغة الأهمية والبعيدة عن إيجاد حل: الفقر والجوع والأمراض، التي تقتل سنوياً عشرات الملايين من الأشخاص في العالم؛ والأمية والجهل والبطالة واستغلال العمل والدعارة بين ملايين الأطفال؛ وتهريب المخدرات واستهلاكها، واللذين يجندان ويحركان آلاف الملايين من الدولارات؛ وغسل الأموال؛ وندرة المياه الصالحة للشرب، وقلة المساكن والمستشفيات والاتصالات والمدارس والمراكز التربوية. ويلحق هذا الأذى بحقوق هامة لكل أبناء البشر.
سيكون للأزمة أثراً سلبياً خاصة على النضال من أجل التنمية المطردة، وحماية البيئة وحماية الطبيعة من التدمير الذي لا يرحم الخاضعة له، والذي يتسبب بتسميم المياه والبيئة، وتدمير طبقة الأوزون، وقطع الأشجار والتصحر وانقراض حيوانات ونباتات. كيف يمكن عدم أخذ ذلك بعين الاعتبار البتة؟
هناك بلدان بل وأقاليم كاملة من بعض القارات يمكنها أن تندثر إذا لم يحارب الإنسان ويقضي على أوبئة مرعبة جداً كالآيدز؛ وإذا لم تتم مواجهة الإرهاب والحرب والأزمة الاقتصادية بصرامة ورباطة جأش. إذا ما كانت الحاجة للتعاون بين جميع البلدان أكبر مرة أكثر من أي وقت آخر إنما هي كذلك هذه المرة.
مع أنه يضحي أمراً لا بد منه العودة إلى هذا الموضوع قبل إنهاء عرضي هذا، أود أن أشرح أولاً الطريقة التي يؤثر الوضع الدولي الراهن والأزمة الاقتصادية وسيؤثران بها بكل تأكيد على بلدنا.
كانت الأزمة الاقتصادية آخذة بالتأثير علينا في بعض مصادرنا الرئيسية للعملات القابلة للصرف.
المحصلات الفورية الأكثر مباشرة: انخفض سعر السكر في السوق العالمي من 9 إلى 6.53 سنتاً للرطل الواحد؛ وسعر النيكل، وهو أحد القطاعات التي كان إنتاجها قد ارتفع مع تقليص في كلفة ونفقة المحروقات، انخفض من 8.640 دولاراً للطن إلى 4.715 دولاراً؛ والمبيعات من السيجار، وهو أحد أهم قطاعات تصديرنا، آخذة بالانخفاض في كل الأسواق. كما تحد أيضاً من صادرات أخرى للسلع والخدمات التي كان يجري تطويرها.
العواقب المباشرة للعمل الإرهابي والحرب المفتوحة:
رغم الأزمة الاقتصادية العالمية التي كانت آخذة بالتطور وارتفاع أسعار تذاكر السفر نتيجة كلفة المحروقات، تم حتى الحادي والثلاثين من آب/أغسطس استقبال ما مجموعه مليون و304597 سائحاً، ما مثل نمواً نسبته 8.7 بالمائة بالمقارنة مع ذات الفترة من العام السابق، حيث تم استقبال مليون 200076 سائحاً.
ونما عدد الزائرين الذين نزلوا في منشآت النظام السياحي بنسبة 11.3 بالمائة.
في شهر أيلول/سبتمبر انخفض مجمل عدد الزائرين، خلال عشرين يوم فقط، بنسبة 9.9 بالمائة بالمقارنة مع ذات الفترة من العام السابق. يقدّر بأن الهبوط في شهر تشرين الأول/أكتوبر سيصل إلى ما نسبته 14 بالمائة. فاراديرو ومدينة هافانا، وهما أهم قطبين، هما الأكثر تضرراً.
كان الإمكان تحقيق هدف الوصول إلى مليوني سائح، وقد تم الوصول إلى المليون الأول قبل ثلاثة أسابيع من موعد تحقيقه في العام الماضي، خلال النصف الأول من السنة. والآن أصبح النمو المحتمل بالكاد يتراوح ما بين 3 و6 بالمائة.
والضربة التي تلقاها حوض الكاريبي كانت أشد بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فقد كان اعتمادهم على السياحة الأمريكية أكبر.
هناك أضرار إضافية نتيجة الأسباب المذكورة ولأسباب أخرى لا علاقة لها بالإرهاب وبالحرب.
مع تقلص الدخول بالعملة الصعبة أصبح محدوداً الحصول على قروض.
وهناك التزامات مالية يجب تسديدها ولو انخفضت الدخول بالعملة الصعبة.
دور صرف العملات
حدث أثر فوري في دور الصرف، المعروفة اختصاراً باسم "CADECA"، حالما بدأت أعمال القصف. ومن أجل الاستيعاب الأفضل للأمر، عليّ أن أشرح بأنه في أصعب لحظات الفترة الخاصة انخفضت قيمة عملتنا، البيسو، لتصل إلى 150 بيسو مقابل الدولار الواحد. وقد مكّنت الإجراءات المتخذة وفتح دور صرف العملات من استعادة قيمته لتصل إلى عشرين بيسو للدولار الواحد. ويعني هذا فائدة كبيرة للمواطنين: فقد أعادت الاعتبار لعملتهم وسهلت أمام المواطنين الدخول إلى محال التسوق بالعملة الصعبة.
بالرغم من الحصار والحرب الاقتصادية، تمكن بلدنا على مدى أكثر من خمس سنوات، وهي حالة فريدة من نوعها في العالم، من المحافظة على استقرار قيمة عملته، بمراوحات دنيا باتجاه أو بآخر. كان البنك يحصل دائماً على فارق صغير لصالحه، لأن عند دور تصريف العملات عروضاً للدولار طلباً للبيسو أكثر من عروض البيسو طلباً لعملتنا من البيسو القابل للصرف. الفارق الذي يتم الحصول عليه كان يخصص كلياً لشراء مواد أولية بالعملة الصعبة من أجل صنع منتجات تباع بالبيسو للمواطنين، تمتد من أرغفة الخبز وحتى البيرة المعبأة وغيرها من المنتجات الكثيرة. والأرصدة التي تتم استعادتها بالعملة الوطنية كانت تنفع من جهتها للمحافظة على استقلال سعر الصرف بين البيسو والدولار.
لقد انعكس هذا الوضع: انخفض عرض الدولار وارتفع شراء البيسو القابل للصرف. على مدى عشرين يوماً متعاقبة، باستثناء ثلاثة منها، فقدّم البنك تزويداً من الدولارات أكثر من الذي تلقاه. ووصلت القيمة السلبية إلى حوالي أربعة ملايين دولار.
يتم القيام بالعمليات المالية في دور تصريف العملات بموجب مبدأ العرض والطلب؛ لا يمكن له أن يكون بطريقة أخرى غير هذه. وصلت قيمة الصرف في لحظة معينة في العديد من المحافظات إلى 28 بيسو مقابل البيسو الواحد القابل للصرف. قبل ثلاثة أيام استقر على حوالي 26 دولاراً مقابل البيسو القابل للصرف، الذي يعادل وقابل للتحويل فوراً إلى دولار حالما طلب ذلك صاحبه.
في مثل هذه الظروف، خسر البيسو 18.18 بالمائة من قيمته. إنه وضع يجب متابعته عن كثب. لا ينبغي على البلاد في هذه اللحظات أن تخاطر بمواردها بالعملة القابلة للصرف. من واجبنا جعل المواطنين على إطلاع لكي يتخذوا في كل ظرف القرار الذي يرونه معقولاً. في لحظات يضغط فيها الوضع باتجاه خفض قيمة البيسو لا ينبغي الانجرار وراء نصائح مضاربين ولا وراء الخوف.
لا يمكن النسيان بأن الثورة، في ظروف بالغة القسوة كظروف عام 1994، كانت قادرة على الشروع بتقليص قيمة الصرف البالغة 150 بيسو مقابل الدولار الواحد إلى 20 بيسو مقابل الدولار وحافظت على قيمته قريبة من هذا الرقم على مدى سنوات كثيرة. الفرصة متاحة أمام المواطنين ليقوموا بودائع لأجل محدد بالبيسو، والتي يتلقون مقابلها نسبة فائدة سنوية تبلغ 7.5 بالمائة، أي ثلاثة أضعاف ما يُدفع للدولار، وما يزيد عن 50 بالمائة من الفائدة التي يتلقاها البيسو القابل للصرف.
ستكسب الثورة في النهاية هذه المعركة أيضاً في وجه عواقب الأزمة الاقتصادية العالمية، مهما بلغت خطورة هذه الأخيرة، وستستعيد عملتها قيمتها تحت أي ظرف.
بكل السلطة المعنوية التي تتمتع بها، تضمن الثورة لجميع المواطنين:
لم نعش نحن فترة عشر سنوات من الفترة الخاصة هباء.
القلق الرئيسي اليوم عند شعبنا وعند كوكبنا الأرضي هو طبعاً أن يتم صيانة السلام، الذي من شأن العالم بدونه أن يسير باتجاه هاوية مميتة. ومن أجل هذا السلام سنكافح بجرأة وشرف وكرامة، كما فعلنا دائماً.
سنواجه الأزمة الاقتصادية بظفر. لا تخيفنا أي تضحية، ولا حتى التضحية بالروح. وهذا أمر معروف جداً. لقد تحملنا وزر كل التضحيات على مدى سنوات كثيرة. وأولئك الذين ظنوا بأن الثورة لن تدوم إلا أسابيع، ينظرون اليوم بإعجاب إلى قدرتنا البطولية على المقاومة والتقدم.
يمكن سطر صفحات طويلة بالمآثر المنجزة. يكفي تعداد بعضاً منها:
من الضروري الحديث عن معركة الأفكار وعن المشروع الاجتماعي العملاق الذي تعرفونه والذي يؤدي بنا إلى اشتراكية أكثر عدلاً وكمالاً بكثير وإلى تحقيق هدفنا بالتحول إلى الشعب الأكثر تعلماً وثقافة في العالم. يكفي القول بأن هذا المشروع يشمل 70 برنامجاً ومئات المهام، والعديد من أهمها قد نُفِّذ.
سينبغي على بعض الأحلام المستقبلية أن تنتظر، ولكن هذه الأحلام ستتحقق.
إن أهم الاستثمارات قد أجري، وكان في حدوده الدنيا. والدور الأساسي لعبه وسيظل يلعبه الرأسمال البشري الهائل لشعبنا.
نحن اليوم من الناحية السياسية أكثر وحدة وقوة من أي وقت مضى.
إننا على استعداد أفضل بكثير من أي وقت مضى لمواجهة هذا الوضع.
عدالتنا الاجتماعية تسمح بحماية جميع المواطنين.
يوجد تنظيم أكبر في مؤسساتنا السياسية والجماهيرية، وفي دولتنا، وفي حكومتنا.
نظام أعمالنا التجارية آخذ بالارتقاء. لقد تعلمنا على الإنتاج بموارد قليلة، وفاعلية أكبر ومزيد من الانضباط.
نعرف ما أخذ يحدث في العالم للذين تخلوا عن الاشتراكية وطبقوا النصائح النيوليبرالية.
إننا نتمتع بشعب أرفع ثقافة وأكثر وعياً وعلى استعداد أفضل يوماً بعد يوم في كل المجالات.
عندما بدأت الفترة الخاصة كانت أيديولوجيتنا الاشتراكية قد تعرضت لضربة مريعة. والضربة المريعة تتلقاها اليوم أيديولوجية خصمنا بأزمته الاقتصادية والأيديولوجية العميقة.
لقد لفتُّ الانتباه إلى أنه قبل انتهائي سأعود إلى موضوعه الإرهاب والحرب و الأزمة الاقتصادية العالمية.
مع أن موقفنا معروف، يبدو لي من الملائم التذكير بأنه في نفس يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، بعد ساعات قليلة من وقوع الأحداث، وبعد التعبير عن إدانتنا الكاملة للعمل الهمجي وتضامننا الصادق والنزيه مع شعب الولايات المتحدة –ذلك أننا لا نطلب شيئاً ولا نأمل شيئاً بالمقابل- عبّرنا عن قناعة نحافظ عليها حتى اليوم بقوة وثقة أكبر من أي وقت مضى: "لا يمكن حل أي من مشكلات العالم الراهنة بالقوة. […] من واجب الأسرة الدولية أن تخلق وعياً عالمياً ضد الإرهاب. […] إنما هي فقط السياسة الذكية في البحث عن قوة الإجماع والرأي العام العالمي ما يستطيع أن يقطع آرب المشكلة. […] إن هذا العمل الذي لم يسبق له مثيل أبداً يجب أن يكون نافعاً لبلورة المكافحة الدولية للإرهاب […]. لا نجاة للعالم إذا لم يتبع سياسة سلام وتعاون دولي".
بعد ذلك بأسبوع، في سان أنتونيو دي لوس بانيوس، عبرت باسم شعبنا: "مهما حدث (أي حدثت حرب أو لم تحدث)، لن يتم السماح أبداً باستخدام أراضينا لتنفيذ عمليات إرهابية ضد شعب الولايات المتحدة".
وأضفت شيئاً آخر: "سنفعل كل ما بوسعنا من أجل منع أعمال من هذا النوع تستهدفه. نعبر له اليوم عن تضامننا معه مع دعوتنا للهدوء والسلام. ويوماً ما سيعون بأننا على حق".
وبعد أسبوع، في 29 أيلول/سبتمبر، واصلت في المنبر المفتوح للثورة في سييغو دي آفيلا التأكيد على وجهات نظرنا: "غير أنه لا يتوهمنّ أحد بأن الشعوب وزعماء سياسيون شرفاء كثيرين لن تعتريهم ردود فعل حالما تحولت أعمال الحرب إلى حقيقة وبدأت تنتشر الصور المروعة. فستحتل هذه المشاهد حينها محل المشاهد المحزنة والمؤثرة لما حدث في نيويورك، والتي من شأن نسيانها أن يُحدث ضرراً لا يعوّض بالشعور التضامني مع الشعب الأمريكي، وهو شعور يشكل اليوم عاملاً أساسياً للقضاء على ظاهرة الإرهاب دون الحاجة إلى حروب ذات عواقب وخيمة وبدون موت عدد لا يحصى من الأشخاص الأبرياء.
ها قد أصبحت تظهر للعيان الضحايا الأولى: ملايين الأشخاص يهربون من الحرب، مشاهد أطفال شاحبين كالأموات ستحرك مشاعر العالم دون أن يتمكن أي شيء من منع انتشارها".
وعبرت افتتاحية لصحيفة "غرانما"، لسان حال حزبنا، في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر، ونُشرت بعد ساعات قليلة من بدء الحرب: "ليست بحرب ضد الإرهاب؛ […] إنها حرب ستجعل عملياتها العسكرية القضاء عليه أكثر تعقيداً وعسراً بكثير. إنه دواء أسوأ بكثير من الداء.
ستأتي الأنباء الآن سيلاً عن قنابل وصواريخ وهجمات جوية وتقدم مدرعات بقوات من أقليات حليفة للغزاة، وعمليات إنزال جوي أو تقدم بري لقوات نخبة من البلدان المهاجِمة؛ وعن احتلال مدن، بما فيها العاصمة، خلال مدة قصيرة نسبياً، ومشاهد تلفزيونية قدر ما تسمح به الرقابة أو ينجو من هذه الأخيرة. ستكون المعارك ضد مواطني البلاد وليس ضد الإرهابيين. ليس هناك كتائب ولا جيوش من الإرهابيين. إن هذا الأسلوب هو أسلوب داجٍ، ومفهوم مشؤوم عن الصراع، شبح".
والآن، بعد انقضاء 26 يوماً على أعمال القصف بدون هدنة، بوسع الذين تابعوا التطورات بشكل يومي أن يلاحظوا بأن ما حدث حتى اليوم يسير كما توقعناه تماماً.
كانت الحرب قد بدأت بلا محالة. وكنا نعرف بأنه من العسير جداً، من المستحيل عملياً أن تحدث على غير هذا النحو. ومع ذلك، فإن هذا لم يثبط عزيمتنا، لا قبل حدوثها ولا بعده، ولا نحن سنتخلى عن مواقفنا.
نؤكد على القول بأنه لا بد من الكفاح ضد الإرهاب وضد الحرب. لم نتحرك أبداً بدافع روح الانتقام من الولايات المتحدة أو الحقد عليها. كنت أمعن بأسى بالخطأ الذي يجري اقترافه برأيي، حتى أنني لم أتفوه أبداً بأي شتيمة أو إساءة شخصية. في عدد ليس بقليل من المرات أكدت أمام المشاركين في معركة الأفكار الكبرى هذه: لا ينبغي جرح أحد شخصياً. إنما، ذكر الأحداث، وتفادي النعوت، وإجراء التحليل ببرود، واستخدام الحجج والبراهين. إن هذا سيحمى سلطتنا المعنوية ولن يكون لأحد الحق بالتشكيك بصلابة وصدق مواقفنا.
أخشى اليوم بأنه إذا ما وُجدت إمكانية إلحاق الهزيمة بالإرهاب، عبر التعاون والدعم الجامع من كل الأسرة الدولية، والذي يؤدي إلى إجراءات فاعلة حقاً وإلى تكوين وعي معنوي عميق ضد الإرهاب، فإن هذه الإمكانية تبتعد الآن أكثر يوماً بعد يوم.
الأمر الأسوأ من شأنه أن يتمثل في الوصول إلى نقطة لا يعود ممكناً فيها إيجاد حل عبر ذلك السبيل، لأنني أرى على نحو أوضح يوماً بعد يوم كم هو خارج عن المنطق ومستحيل حله عبر الحرب. أحاول أن أتكهن بما كان يخطر ببال المخططين السياسيين والعسكريين الأمريكيين. ربما ظنوا بأن الحشد الهائل للقوات سيثني إرادة قوات طالبان؛ وربما راودهم الأمل بأن تحقق الضربة الساحقة الأولى هذا الهدف. كل العالم يعرف حسابات حلف الناتو في الحرب ضد يوغسلافيا؛ فقد كانت الفكرة بأن الهدف سيتحقق خلال خمسة أيام، وقد مر نحو ثمانين يوماً دون أن يتحقق. من المعروف أيضاً أنه بالرغم من الحشد ما فوق العادي للتقنية والوسائل، بقي الجيش الصربي على حاله تقريباً. لم يكن بقليل الضغط الذي مارسه مبعوثو روسيا وفنلندا "لإقناع" الخصم عبر السبل الدبلوماسية حين حلت ساعة القتال براً، وهو أمر لم يكن يبعث الارتياح عند كثيرين من أعضاء الحلف.
لا أؤيد الرأي القائل بأن هدف الولايات المتحدة هو البحث عن نفط في أفغانستان. بل أنني أربط ذلك بمفهوم جغرافي-استراتيجي. لا أحد يقترف مثل هذا الخطأ من أجل البحث عن البترول، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق ببلد يستطيع الوصول إلى أي نفط في العالم، بل وكل ما يتمناه من نفط وغاز روسي. يكفي بأن يستثمر ويشتري ويدفع الثمن. بل وأنه بفضل ما يتمتع به من امتيازات، يستطيع أن يشتريه عبر طبعه سندات للاحتياط لمدة ثلاثين سنة. وهكذا اشترى هو منتجات وخدمات بقيمة أكثر من 5.6 بلايين دولار على مدى أكثر من ثمانين سنة.
إن التحرك العسكري في أفغانستان مليء بالمخاطر. إنها منطقة نزاع بالغة السخونة، حيث خاض بلدان كبيران عدة حروب. توجد بينهما نزاعات قومية ودينية عميقة. سكان الأراضي المتنازع عليها هم من غالبية مسلمة. وحين تكون النفوس غاضبة لا يمكن لأحد أن يؤكد بأنه لن تنفجر حرب. كلاهما يمتلكان أسلحة نووية. تبلغ هذه الخطورة من الشدة كخطورة تسبب الحرب بالاضطراب لحكومة باكستان. لقد تم وضعها في وضع بالغ التعقيد. من هنا نشأت قوات طالبان، تتقاسم ذات أتنية باشتون بعدد غير محدد لا يقل عن عشرة ملايين باكستاني. إنني أستخدم أصغر رقم من الأرقام المتداولة. يتقاسمون نفس المعتقدات الدينية أيضاً بحماس تعصبي.
كثيراً ما يكون العسكريون الأمريكيون دارسين لمهنتهم. لقد تعرفت إلى العديد منهم حين زاروا كوبا كأكاديميين بعدما تقاعدوا. إنهم يؤلفون كتباً ويروون قصصاً ويجرون تحليلات سياسية. لم أستغرب أبداً من النبأ المعلن في 29 تشرين الأول/أكتوبر في مجلة "ذي نيويوركر" (The New Yorker) عن وجود خطة طوارئ من أجل الاستيلاء على الرؤوس النووية في باكستان في حال احتلال مجموعة راديكالية لحكومة هذا البلد.
إنه لمن المستحيل على الإطلاق بألا يكون المخططون الأمريكيون قد أخذوا في الحسبان هذا الخطر الفعلي. كل قنبلة تسقط على أفغانستان، وكل صورة لأطفال قتلى، أو ينازعون أو يئنون من جروح مريعة، تزيد هذا الخطر. ما لا أتصوره هو ما ستكون عليه ردة فعل المسؤولين عن حماية هذه الأسلحة أمام هذا التحرك المحتمل، الذي بلغ من الانتشار ما يبلغه انتشار "قصة موت معلن"، لغارسيا ماركيز.
أجهل ما لا بد وأن الخدمات الأمريكية تعرفه تمام المعرفة: أين تخبّأ هذه الرؤوس النووية، وكيفية حفظها وكيفية حمايتها. أحاول أن أتصور –وليس من السهل ذلك- ما سيكون عليه عمل من هذا النوع عند استخدام قوات نخبة. ربما يروي أحد ما في أحد الأيام كيف يتم فعل ذلك. وأكثر من ذلك، يكلفني عناء أن أتصور ما سيكون عليه الوضع السياسي بعد ارتكاب عمل من هذا النوع، وسيكون الكفاح آنذاك ضد أكثر من 100 مليون مسلم آخرين. لقد نفت حكومة الولايات المتحدة نبأ خطة الطوارئ هذه. وكان هذا متوقعاً. فلم يكن أمامها خياراً آخر.
أكثر الأسئلة التي أستطيع توجهها لنفسي منطقية هو ما إذا كان رؤساء الحكومات والدول الصديقة للولايات المتحدة ذوو الخبرة العملية والسياسية والطويلة لم يروا المخاطر الكامنة المشار إليها، ولماذا لم ينبهوها إلى ذلك، لماذا لم يقنعوها. إنه لمن الثابت بأن أصدقاء الولايات المتحدة يهابونها، ولكنهم لا يقدرونها.
إنه لمن الصعب دائماً التخمين حول مثل هذه المواضيع. ولكن هناك أمراً أنا على ثقة مطلقة به: يكفي بأن يستخدم 20 ألف أو 30 ألف رجل أساليب ذكية للحرب غير النظامية، وهي نفس الأساليب التي تريد الولايات المتحدة استخدامها، ويكون بمقدور الحرب أن تدوم عشرين سنة. إنه لمن المستحيل على الإطلاق هزم الخصوم الأفغان في حرب غير نظامية بقنابل وصواريخ، مهما كان عيار أو قوة هذه الأسلحة، في أراضي كأراضي ذلك البلد.
لقد تجاوزوا اللحظة النفسية الأصعب. لقد خسروا كل شيء: أقارب، ممتلكات أبنية. لم يبق لديهم شيئاً آخر يخسرونه. لا يشير أي منطق إلى أنهم سيلقون أسلحتهم، حتى لو تمت تصفية زعمائهم الرئيسيين. إن استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، كما يقترح البعض، إنما هو مضاعفة الخطأ مائة مرة، وإلى جانبه انتقاد لا يقاوَم وعزلة عالميين. ولهذا، لم أصدق أبداً بأن مثل هذه التكتيكات قد خطرت فعلاً ببال الذين يقودون ذلك البلد، ولا حتى في خضم أسوأ لحظات الغضب.
إنها تأملات أعبر عنها بصوت عالٍ. أعتقد بأن المرء يكون تضامنياً مع الشعب الأمريكي، الذي فقد آلاف الأرواح البريئة، بمن فيهم أطفال وشبان وشيوخ ورجال ونساء، في اعتداء وحشي، إذا قال ما يفكر به بصراحة. ألا تذهب التضحية بهذه الأرواح هباء، وأن تنفع من أجل إنقاذ أرواح كثيرة، من أجل الإثبات بأن الفكر والوعي هما أقوى من الهول والموت.
لا ننصح بأن تبقى جريمة واحدة ترتكب على وجه الأرض بدون عقاب. ليس لدي عناصر حكم لأوجه الاتهام لأحد؛ ولكن إذا كان المذنبون هم الذين تحاول حكومة الولايات المتحدة معاقبتهم وتصفيتهم، لا ينبغي أن يراود الشك أحداً بأنه بالطريقة التي يفعلون ذلك بها، سيشيدون مذابح للقرابين يبجل ملايين الرجال والنساء عليها كقديسين أولئك الذين تفترض هي بأنها ضحيتهم.
يكون الحال أفضل بقيام مذبح قربان هائل من اجل السلام، حيث تكرّم البشرية أرواح كل الأبرياء الذين ذهبوا ضحية الرعب والعنف الأعمى، سواء كان طفل أمريكي أو طفل أفغاني. يقول هذا خصم لسياسة الولايات المتحدة، يعتقد بأن لديه فكرة عن التاريخ والسيكولوجيا والعدالة الإنسانية؛ وليس عدواً.
مع وصولي إلى هذه النقطة بقي عليّ أن أتناول موضوعاً أخيراً. إن ما يحدث مع الجمرة الخبيثة (أنتراكس) هو أمر لا يمكن فهمه على الإطلاق. لقد تم خلق حالة من الذعر الحقيقي والصريح. الأدوية الكاسدة ضد هذه البكتيريا تُستنفد. وأشخاص كثيرون يشترون أقنعة وأجهزة من كل نوع، يكلف البعض منها آلاف الدولارات.
يمكن للأطوار الغريبة أن تتسبب بضرر أكبر من المرض نفسه. عندما ينشأ مرض ما، مهما كان السبب، الأمر الأساسي هو تنبيه المواطنين وإبلاغهم بماهيته وأي إجراءات يجب أن يتخذوها من أجل اتقائه وتشخيصه ومكافحته.
تنتقل الأمراض من بلد إلى آخر عبر سبل طبيعية، يمكن أن تكون من خلال أشخاص أو حيوانات أو نباتات أو حشرات أو منتجات صناعية أو بألف طريقة مختلفة، دون الحاجة لأن ينتجها أحد في مختبر. وهذا الأمر حدث تاريخياً. وليس هباء وجود كل ما يوجد من نظم صحية. نوع الاضطراب ورد الفعل النفسي الذي بعثه الأنتراكس يحوّل المجتمع الأمريكي إلى رهينة للذين يريدون أن يُنزلوا به الأذى عبر هذه الطريقة، علماً منه سلفاً بأنه سيزرع الذعر.
كان على بلدنا أن يواجه في مناسبات عديدة أمراضاً جديدة تصيب أشخاصاً ومحاصيل ومواشي، تم إدخال الكثير منها بشكل مقصود. ليس هباء تمتع البلاد بِ 67128 طبيباً وآلاف الفنيين في سلامة النباتات والحيوانات. ويعرف مواطنونا ما عليهم فعله على الفور.
لا يتمتع أي بلد في العالم بعدد أكبر مما تملكه الولايات المتحدة من مراكز البحث والمختبرات والأدوية، أو القدرة على إنتاجها أو اقتنائها، ولمحاربة هذا المرض أو ذاك.
أمام وجود مخاطر فعلية أو واهمة، في الحاضر أو في المستقبل، ليس هناك من خيار آخر غير توعية المواطنين على طرق مواجهتها. وهذا ما فعلناه نحن الكوبيون.
يجب دراسة الأسباب التي أدت إلى نشوء الذعر. لا يمكن التأكيد في الواقع بأن الولايات المتحدة ليست معرضة لمخاطر أعمال إرهابية. غير أنني لا أعتقد أن تستطيع أي مجموعة داخلية أو خارجية ضمن الظروف الحالية من الاستنفار العام والإجراءات المتخذة أن تنظم عملاً منسقاً، ومنظمة بكل تفاصيلها خلال مدة طويلة من الوقت ومتزامنة ومنفذة بدقة كالعمل الذي ارتُكب في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. برأيي أن الخطر الأكبر يمكن أن يأتي من تحركات فردية، أو من عدد قليل جداً من الأشخاص انطلاقاً من الداخل أو من الخارج يمكنهم إلحاق أضراراً كبيرة أو صغيرة الحجم. لا ينبغي التقليل من شأن أي كان. ولكن الأهم من الإجراءات الوقائية في وجه هذه المخاطر هو تجريد مرتكبيها الكامنين من سلاحهم نفسياً: إنها مجموعة تبدأ من الذين يريدون فعل ذلك انطلاقاً من تطرف سياسي أو روح انتقام أو حقد، وحتى عدد ليس بقليل ممن تغريهم الشهرة أو الرغبة بأن يكونوا عناصر فاعلة في أحداث بارزة، وتكون فرصة إصابة شعب الولايات المتحدة بالجنون بين أيديهم، وذلك بسبب الضرر الذي يلحقه اليوم إرسال الرسائل التي تحتوي أو لا على الأنتراكس.
تصل إلى كوبا أيضاً وتتنقل فيها رسائل وبطاقات تحتوي على مساحيق وأشياء غريبة. لقد تم اكتشاف 116 رسالة بين الخامس عشر والحادي والثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر: 72 قادمة من الخارج؛ 36 من الولايات المتحدة، 8 من بريطانيا، 3 من كندا، 2 من جمهورية التشيك، اثنتان من إسبانيا، اثنتان من هولندا، واحدة من الدانمارك، واحدة من المكسيك، واحدة من أستراليا، واحدة من البرازيل، واحدة من ألمانيا، واحدة من شيلي، وواحدة من الإمارات العربية المتحدة. خمس وعشرون منها كانت موجهة لي. أشكر المرسِلين على لطفهم. إن فنيي مختبراتنا آخذون بالتحول إلى خبراء حقيقيين. واحدة وثلاثون خرجت من البلاد وتنقلت داخلها، الغاية من العديد منها القيام بمزاح ثقيل؛ وخمسة كانت موجهة من كوبا إلى الخارج: اثنتان إلى الولايات المتحدة وواحدة إلى باكستان، وواحدة إلى إيطاليا وأخرى إلى كوستاريكا؛ وثمانية غير محددة المصدر. من المائة وستة عشر رسالة التي تم فحصها، باستثناء 24 هي قيد التحليل، لم يتم التحقق من وجود عناصر بيولوجية فيها. ولا عامل واحد من عمال مكاتب البريد أو القصر أو المختبرات أصيب بتلوث. نتمتع بصحة رائعة. لم يحصل أعمال إثارة أو أي فضيحة ولا استنفار ولا ذعر أبداً. لم يشتر أحد أدوية أو أقنعة مضادة للغازات. إنما أروي لكم هذا الفصل لكي أعطيكم صورة فقط عما قلته حول ما لا يُفهم مما يحدث مع الأنتراكس في الولايات المتحدة. حتى لو كان قد تم إدخال أي بكتيريا، ما كان لأي ذعر أن يحدث؛ فكل الناس تعرف ما من واجبها أن تفعل. ما كان له أن يكون صعب جداً بالتأكيد هو أن تخرج من كوبا رسالة تحتوي على فيروسات أو بكتيريات ممرضة إلى بلد آخر. يسعدنا أن نعلم بأن رسالتين موجهتين إلى الولايات المتحدة لم تتمكنا من الوصول، ولا كذلك الرسائل الثلاث الأخرى الموجهة لبلدان أخرى. هكذا سيكون تعاوننا في جميع المجالات مع كل شعوب العالم. إن أطباءنا وأخصائيينا الآخرين على حد سواء، وكذلك فنيينا ومراكز بحثنا وخبرتنا المتواضعة ستكون بخدمة مكافحة الإرهاب البيولوجي وغيره من أشكال الرعب.
إذا كان من الثابت أن أصدقاء الولايات المتحدة يهابونها، ولكنهم لا يقدرونها، لا تهاب كوبا ولو الحد الأدنى القوة العظمى عند ذلك البلد، ولكنها مؤهلة لتقدير شعبه.
شكراً جزيلاً.