الخطاب الذي ألقاه رئيس جمهورية كوبا، القائد العام فيدل كاسترو روس، في كلية الحقوق، بوينوس أيريس، في السادس والعشرين من أيار/مايو 2003.
أعزائي الأخوة الطلاب والعمال، أوشك على القول يا أبناء وطني، الأرجنتينيين (تصفيق).
لقد عشت بضع سنوات، ولكن لم يسبق لي حتى أن تصورت مهرجاناً يبلغ ما يبلغه هذا من التلقائية وبقدر لا يصدق من التأثير والتحريك للمشاعر (تصفيق وهتافات).
أود أن أبلغكم أنه في هذه اللحظة ذاتها يشاهد ملايين الكوبيين هذا المهرجان أيضاً (تصفيق وهتافات: كوبا، كوبا، كوبا، شعبنا يحييك!). أشكركم جزيل الشكر على ذلك باسم شعبنا، لأنه من القوة المنبثقة عن الأفكار، المنبثقة عن الحقيقة، والمنبثقة عن قضية عادلة يأتي تحول الشعوب إلى شعوب لا تُهزم (تصفيق).
كنا قد فكّرنا بمهرجان، أو كنتم قد فكرتم بمهرجان، حسبما شرح لي الطلبة والسلطات الجامعية، نشاط في مدرسة الحقوق هذه، برنامج متواضع، يبدأ في الساعة السابعة مساء ويشارك فيه بعض من الطلاب جالسين في قاعة، وتحسباً لقدوم عدد أكبر، تم وضع شاشة من أجل تمكينهم من مشاهدة المنبر.
بوسعي أن أوجّه انتقاداً –ليس لكم أنتم-وإنما لرفاقنا، لأقول لهم: "لقد استخفّيتم بالشعب الأرجنتيني" (تصفيق). بدأت تصل أنباء عن امتلاء القاعة، وأنه كان هناك ضعف عدد من يمكنهم الجلوس، وأن أطراف القاعة لم تعد تتسع أيضاً، وأن الممر قد امتلأ، وأن المدرج آخذ بالامتلاء، وقالوا بأن العدد قد وصل إلى ألف، ثم ألفين، ثم ثلاثة. وفي لحظة معينة تحدثت المحطات التلفزيونية أيضاً وشرحت ما كان آخذ بالحدوث هنا، وفجأة، رأيت بعض المشاهد –لدينا عادة ما في حساب عدد الأشخاص الذين يتواجدون في أي حش- وبدا هذا المكان بأنه ساحة الثورة في كوبا (تصفيق).
جميع الاتصالات والطرق المؤدية للمكان قُطعت؛ لحسن الحظ أن هذه الأجهزة التي تبعث كل ما تبعث من الإزعاج ومن الضجة –وأقصد أجهزة الهاتف الخلوي- تنفع في مثل هذه اللحظات للاتصال ومعرفة الوضع.
وسفيرنا، الذي يشكل جزءاً من مجموعة المذنبين في هذا الاستخفاف (ضحك)- أعرف بأنكم ستدافعون عنه، لأنه يكن حباً عظيماً للشعب الأرجنتيني (هتافات)- أخذ يتصل بعائلته في قاعة هذه الكلية حيث انبغى إقامة هذا المهرجان –حتى أنه كان هناك بعض الأطفال، ظناً منهم بأنه أكثر المهرجانات سلمية، وهو الحق، أليس كذلك؟-، لم يكن يتصور مدى مقدرة هذا الحشد على تنظيم نفسه؛ ولكن لم يكن بوسعه أن يتحرك، والجميع كانوا في عزلة، لا اتصال بينهم إلا بواسطة أجهزة الهاتف الخلوي. لم يكن هناك مدخل من أي جهة كانت، فقد كان قد تم الإعلان بأنه من المستحيل الدخول، وأنا لم أسلّم لفكرة النكث بالتزامي، وبـألا أتمكن نتيجة ظروف مادية، نتيجة عراقيل بسبب الحشد، من التشرف والافتخار بتحيتكم.
تم الإعلان بأنه كان أمراً مستحيلاً، والحقيقة أنني أصررت بأنه ليس هناك من مستحيل (تصفيق)، وأنها مشكلة يجب حلها، أنه لا يمكنني القبول بفكرة البقاء هناك في الخارج بانتظار الأنباء. اعتدت على مدى حياتي أن أتحرك، وأن أذهب أينما كانت هناك أي صعوبة، ولم يمكنني التكيف مع فكرة ركوب تلك الطائرة، ساعة ركوبها، بدون أن آتي إلى هذه الجامعة.
واضح طبعاً بأنني زائر، وقبل كل شيء، يجب أن أحترم القانون، النظام؛ ليس من حقي القيام بشيء على الإطلاق يمكنه أن يشكل أدنى انتهاك لقانون أو نظام سلطاتها.
لا بد من القول بأن السلطات تعاونت في الواقع إلى أقصى الحدود رغبة منها في إيجاد حل.
واصلوا إبلاغنا من مدرسة الحقوق وقالوا لنا: "لا أحد يتحرك من القاعة". أحرزوا بعض التقدم على طرفي القاعة، وجاءت لحظة انكسر فيها شيء ما في مكان ما –أعتقد أنه سيتوجب علينا أن نتحمل نحن أيضاً، أو نتقاسم مع أحد بدل الأضرار التي يمكنها أن تنجم عن كسر شباك، أو فتح ثغرة هناك من قبل هذه الكتيبة الوطنية والثورية من الأرجنتينيين (تصفيق).
لجأنا إذ ذاك إلى كادر شاب من أعضاء وفدنا، وهو وزير العلاقات الخارجية، الذي شاهدتموه واستمعتم إليه أنتم، وقلت له: "عليك أن تذهب إلى هناك، وأن تدخل من حيث تستطيع. تحدث مع الذين في داخل تلك القاعة واشرح لهم الوضع الفعلي والموضوعي وإذا كان بالإمكان عدم إحياء المهرجان هنا"، لأنه كان هناك خوف له ما يبرره بأنه في حال قيام المهرجان هناك والشاشات هناك، أن يدخل بعض ممن غادروا طوعاً من جديد، فكان لا بدّ من طرح الحاجة الفعلية للانتقال إلى المدرج وإحياء المهرجان في ذلك المكان.
كنا ننتظر بفارغ صبر، واستمعنا إلى مبعوثنا عن طريقَين، عن طريق التلفزيون، حيث كانت بعض المحطات تبث كلماته وحتى عبر الهاتف الخلوي، ورأيناه وهو يحاول إقناع من تواجدوا داخل القاعة بالانتقال إلى هنا.
تم التحقق مجدداً من قدرة الشعوب على التفهم والتعاون والتجاوب، لأنه أخبرني بعد دقائق قليلة: "إنهم يتحركون باتجاه المدرّج".
ولكن هناك عثرة أخرى يجب تذليلها، وهي كاميرات التلفزيونات والميكروفونات (هتافات). اسمعوا، لا تتشاجروا مع الكاميرات الآن، دعوا ذلك ليوم غد، إذا أردتم (أحد ما يقول له شيئاً). أعرف ذلك، أعرف ذلك، ولكن لا، فقد كنت أصغي، وكان هناك اهتمام فعلاً بنقل وقائع ما يحدث، وهكذا فإنني لا أتذمّر؛ ولكن كان لا بد من نصبها، وإلا فلن يدري بما يقال هنا إلا أنتم.
على سبيل المثال، بدون الكاميرات، وبدون الوسائل التقنية ما كان بإمكان شعبنا أن يرى ما يحدث في هذه اللحظة، فكان هذا ما استغرق ساعة. هل تعرفون ما يعني ساعة من فراغ الصبر؟ لقد عرفنا نحن وأنتم هذه الساعة الطويلة، التي لا تنتهي من فراغ الصير، لأنه كان لا بد من نصب هذه الميكروفونات ومكبّرات الصوت والمعدات والأجهزة الصحفية، التي كانت معدّه لقيام المهرجان في الداخل، والحقيقة أنه تم التمكن من فعل ذلك خلال مدة قياسية.
كانت الساعة 8:40 وسألنا، فقالوا لنا: "كل شيء جاهز، من الملائم أن تأتوا بسرعة"، فمن ناحية أخرى، هناك برودة الطقس، وهي برودة لا يمكن لحرارتكم أن تتجاوزها (تصفيق).
حسناً، لقد وضعوا لي هذا الذي لا أحتاجه في الحقيقة، سوف أتخلّى عنه، فالحقيقة أنه يخجلني أن أتواجد هنا ملتبساً شيئاً من هذا (يخلع المعطف).
انطلقنا بسرعة إلى هنا، بغية الوصول في الموعد الذي تم حسابه على نحو تقريبي؛ ولكن المأثرة التنظيمية التي قام بها الجمهور كانت أشبه بالمعجزة (تصفيق). لن أنسى أبداً ما فعلتموه أنتم هذه الليلة، لتسمحوا لنا بأن نغادر سعداء وشاكرين إلى الأبد.
يمكن لأحدهم أن يتساءل إن كان هذا يا ترى غرور منّا نتيجة التكريم الهائل الذي أجريتموه أنتم لنا. لا، ليس هذا ما أفكر به. عندما أتكلم عن امتنان أبدي إنما لأن شعب بوينوس أيريس هذا يوجّه رسالة لأولئك الذين يحلمون بقصف وطننا، مدننا (تصفيق وهتافات: "كوبا، كوبا، كوبا، شعبنا يحييك!" "بوش، فاشي، أنت الإرهابي")؛ لأولئك الذين يحلمون ليس فقط بتدمير الثورة، وإنما تدمير الشعب الذي صنع هذه الثورة وكان قادراً على مقاومة أكثر من أربعين سنة من الحصارات والاعتداءات والتهديدات لبلدنا (تصفيق).
في مثل هذه الظروف لا يمكن فقط حساب الأطفال الذين ماتوا، أو الأمهات اللواتي متن، أو المسنين الذين ماتوا، أو الشبان والبالغين الذين ماتوا. ففي بعض الأحيان يتعرض الناجون لدرجة من الإعاقة ومن التشويه أن المرء يتساءل إن لم يكونوا ضمن هذه الظروف يفضّلون الموت مائة مرة على مواصلة الحياة بتلك الطريقة، محصلة شيء تم القيام به بدون أي نوع من الأسباب، وبدون أي قانون أو مبرر غير انتهاك الأعراف الدولية، انتهاك القوانين التي كنّا نعتقد بأنها تحكم هذا العالم؛ مع أن كثيرين منّا كنّا نشتبه بأن أقل ما يجد الاحترام هو القانون وحيث أخذ يقوم مبدأ القوة، كتبرير وحيد لارتكاب أي نوع من الجرائم، من أجل إخضاع شعوبنا، والاستيلاء على مواردنا الطبيعية، ومن أجل فرض ما ذكرتموه أنتم، نظام استبداد نازي فاشي عالمي علينا (هتافات نابذة).
ليست مبالغة، ولا استخداماً متمادياً للكلمات، نحن من جهتنا، حين سمعنا يوماً بأن ستين بلداً أو أكثر يمكنها أن تكون هدفاً لهجمات مفاجئة ووقائية؛ لم يسبق أبداً في التاريخ أن أطلقت أي إمبراطورية هذا التهديد (هتافات نابذة).
وحين جرى الحديث عن الاستعداد للقيام بأي هجوم على أي ركن مظلم في العالم… لا أذكر أنني سمعت أبداً كلمات كهذه.
عندما قيل بأنه يمكن استخدام أي سلاح كان، سواءً كان الأسلحة النووية أم الكيماوية أم البيولوجية، بالإضافة إلى الأسلحة بالغة الحداثة التي لم يعد فيها شيئاً تقليدياً، لأنها قادرة على إنزال أي نوع من الدمار، تذكّرنا ما يلي: ما هو الحق الذي يتمتع به أي كان لكي يهدد الشعوب بهذه الطريقة؟
أتساءل إن كان يحتاج الأمر في هذه الساحة، في هذا المهرجان، لإضاءة الكثير من اللمبات، بسبب قلة النور، لكي لا نكون ركناً مظلماً من العالم يجب مهاجمته على نحو مفاجئ ووقائي (تصفيق).
إن هذه الساحة وهذا المدرج الذي نراه هنا ليس بركن مظلم طبعاً، إنه ركن مليء بالضوء، مليء بملايين الأضواء. إن هذه الساحة وهذا المدرج هو كشمس، كالشمس التي رأيناها حين وصلنا إلى هنا أو رأيناها صباح هذا اليوم عند زيارتنا لتمثال مارتيه من أجل وضع إكليل من الزهور في ذلك المكان (تصفيق). (أحد ما من الجمهور يقول له شيئاً). نعم، ولكن عند زيارة نصب سان مارتين كان الوقت أبكر بقليل بعد، ولكن الشمس كانت قد أصبحت قوية، وفكرت: إن شمسنا قوية، وعلى الأخص شديدة الحرارة، وفكرت: إن هذه الشمس على قدر من شدة الحرارة، أي أن الطقس بارد، ولكن الشمس كانت شديدة الإشعاع.
بانت للشمس قوة كبيرة؛ لأنه يوجد هنا شمسان في هذه اللحظة: الشمس التي رأيناها صباح هذا اليوم والشمس التي رأيناها ساعة وصولنا إلى هذا البلد، والشمس التي نراها هنا في هذا المدرج وفي هذه الساحة. إنها الأفكار، إنها الأفكار هي ما ينير العالم (تصفيق)، إنها الأفكار، وعندما أتكلم عن أفكار لا يخطر ببالي غير أفكارٍ عادلة، تلك التي يمكنها أن تجلب السلام للعالم وتلك التي يمكنها أن تجد حلولاً للمخاطر الكبيرة بوقوع الحروب، أو تلك التي يمكنها وضع حد للعنف. ولهذا نتكلم نحن عن معركة الأفكار.
وبما أنني شخص متفائل، أفكّر بأنه يمكن لهذا العالم الخلاص، رغم الأخطاء المرتكبة، ورغم القوى الجبارة ووحيدة الجانب التي قامت، لأنني أؤمن بسؤدد الأفكار على القوة (تصفيق وهتافات)، وهذا هو ما نلاحظه هنا.
لم أكن أتوخى إلقاء خطاب حماسي اليوم، بل شعرت أن من واجبي أن أكون حذراً في كلماتي. طبعاً، كنت أفكر بأن أتكلم بشكل رئيسي عن بلدنا وعن العالم، وهذا ما أنا عاكف على فعله، ولكن ليس بوسعي فعل ذلك بدون أن أراكم هنا، بدون أن أشاهدكم في هذا المهرجان.
بل أنه، وبما أنهم جعلوني أحلم بقاعة هادئة ويكون الحضور فيها جالسين، فكرت بمسألة وهي الآتية: "ما الذي من واجبي أن أكلّم الأرجنتينيين عنه؟"، فإلقاء خطاب في أي مكان كان هو أمر معقد دائماً، ليس بالسهل، يجب تفادي قول كلمة واحدة يمكنها أن أن تجرح أحد أو تبدو وكأنها تدخل –ولا أعتقد أنني تفوّهت بكلمة واحدة يمكنها أن تظهر على أنها تدخل في المشكلات الداخلية للبلد المضيف الذي أتواجد فيه-؛ ولكنني قلت لنفسي: "عمَّ من واجبي أن أتكلم؟" وطرحت على نفسي قضية: يفرض الخطباء عادة الموضوع على الذين يصغون إليهم، فيقال أنهم يفكرون أن يتكلموا عن موضوع كذا أو غيره، فخطرت على بالي فكرة: عدم طرح أي موضوع، وإنما سؤال الطلاب، الذين افترضتهم جالسين هناك، بأن يذكروا لي الموضوع الذي يهمهم، أي أن تكونوا أنتم من يفرض علي الموضوع وليس أن أكون أنا من يقول أي هو موضوعي المفضّل؛ بدا لي ذلك أكثر ديمقراطية وعدالة.
هذا ما فكرت به قبل أن يحدث هذا الزلزال، هذه الجلبة، هذا الإعصار الذي حدث حول الجامعة في ساعات المساء. عندما وصلت إلى هنا نظرت لأرى إن كانت تلك التقنية ممكنة. غير أنني أعتقد بأن أحداً هنا قال… سمعت صوتاً يقول لي… حدّثني عن أمر ما (يقولون له عن تشي [غيفارا])، عن حياة تشي (تصفيق).
لا يمكن الإسهاب، فلن يكون هناك معنى لذلك ضمن هذه الظروف، ولكنني أستطيع أن أروي بعض الأمور. تسألونني عن تشي (هتافات)، وقد تحدثت عنه صباح هذا اليوم أمام تمثال سان مارتين، لأنني أتذكره دائماً كواحدة من أكثر الشخصيات التي عرفتها فوقاً للعادية.
لم ينضم تشي لقواتنا كجندي، فقد كان طبيباً. كان يتواجد في المكسيك صدفةً، وكان قد تواجد قبل ذلك في غواتيمالا وتجوّل في أماكن كثيرة من القارة الأمريكية؛ بل وأنه كان قد تواجد في الأمازون في مستشفى للأمراض العقلية حيث عمل كطبيب.
ولكنني سأروي لكم عن واحدة من مزايا تشي وواحدة من أكثر المزايا التي كنت أقدّرها، بين المزايا الكثيرة التي كنت أقدّرها فيه؛ كان يحاول في نهاية كل أسبوع أن يصعد إلى بوبوكاتيبتل، وهو بركان يقع في أنحاء العاصمة. كان يعد عدّته –والجبل شاهق وتغطيه الثلوج بشكل دائم-، ويبدأ بالصعود، باذلاً جهداً هائلاً ولا يصل إلى القمة. كان الربو يعرقل محاولاته. وفي الأسبوع التالي كان يحاول من جديد الصعود إلى بركان "بوبو" –كما كان يسميه- ولم يكن يصل إلى القمة، وكان من شأنه أن يقضى كل حياته وهو يحاول الصعود إلى بركان بوبوكاتيبيتل، ولو لم يصل أبداً إلى تلك القمة. (تصفيق وهتافات). إن ذلك يعطي فكرة عن الإرادة والقوة الروحية، وعن مثابرته، وهي إحدى مزاياه.
ما هي مزيّته الأخرى؟ مزيّته الأخرى هي أنه كلما احتاج الأمر لمتطوّع للقيام بمهمة معينة، حين كنا ما نزال مجموعة صغيرة جداً ومحدودة، أول من كان يعرض نفسه هو تشي (تصفيق).
وبصفته طبيباً كان يمكث مع المرضى، لأنه ضمن ظروف معينة في الطبيعة، في الجبال الحرجية، وفي لحظات كنا نتعرض فيها للملاحقة من اتجاهات متنوعة جداً، كانت القوة التي يمكننا أن نسميها رئيسية، هي القوة التي عليها أن تتحرك، وأن تترك علامة ظاهرة جداً للعيان لكي يتمكن الطبيب والمرضى الذين يعتني بهم أن يمكثوا في منطقة ما على مسافة أقرب. جاءت لحظات كان فيها هو الطبيب الوحيد، إلى أن جاء أطباء آخرون، وكان هو يتواجد هناك.
وبما أنكم تطلبون مني أن أروي حوادث طريفة، أستطيع أن أتذكر عملية كانت بالغة الخطورة بالنسبة لنا جميعاً، وذلك بكل بساطة لأنه وردتنا أنباء إلى مكان كنّا نتواجد فيه في الجبال عن عملية إنزال بحري قد تمت في شمال المحافظة. تذكّرنا مغامراتنا، وعذابنا في الأيام الأولى، وكتحرك تضامني لصالح أولئك الذين كانوا قد أنزلوا، قررنا القيام بتحرك بالغ الجرأة لم يكن من الناحية العسكرية صحيحاً، وهو بكل بساطة مهاجمة وحدة عسكرية كانت بالغة التحصن على الشاطئ.
لن أذكر المزيد من التفاصيل. كمحصّلة لتلك المعركة التي استغرقت ثلاث ساعات، وكان حظنا فيها بالنجاة وافراً، لأننا كنّا قد تمكنّا من قطع الاتصالات، وبعد ثلاث ساعات، حين انتهت تلك المعركة التي كان له فيها، كالعادة، دوراً بارزاً، قتل أو جُرح فيها ثلث المقاتلين المشاركين فيها، وهو أمر غير معهود؛ قام هو آنذاك، بصفته طبيباً، بالعناية بالجرحى من الطرف المعادي –كان هناك أعداء أحياء وليسوا جرحى، ولكن كان هناك عدد كبير من الجرحى وقام هو بالاعتناء بهم- واعتنى برفاقنا الجرحى أيضاً (تصفيق).
لا تتصورون أنتم حساسية ذلك الأرجنتيني! (تصفيق). وهناك أمر أتذكره الآن: كان يوجد رفيق مصاب بجروح مميتة، وكان هو يعرف ذلك؛ كان الأمر يحتّم في تلك اللحظة مغادرة المكان حالاً، لأنه سرعان ما كانت ستظهر الطائرات، وقد أثار الدهشة عدم ظهورها أثناء تلك المعركة، فهي كانت أول ما يظهر بعد عشرين دقيقة؛ ولكن أعتقد بأن الحظ قد حالفنا في تدمير الاتصالات عبر بعض الأعيرة الصائبة. تمتعنا بذلك الوقت، ولكن كان لا بد من الاعتناء بالجرحى والانسحاب بسرعة. ولا يمكنني أن أنسى، حين كان رفيق مشرف على الموت المحتّم، وهو أمر رواه لي هو… لم يكن بالإمكان نقله؛ هناك جرحى ذوي إصابات أخطر لا يمكنك نقلهم، عليك أن تثق، ذلك أنك اعتنيت بجرحى الصف المعادي، وتمكنت من أخذ عدد من الأسرى، وهم أسرى احترمناهم نحن دائماً؛ لم تكن هناك حالة واحدة تعرض فيها أسير لسوء المعاملة أو الإعدام مرة واحدة (تصفيق). بل وأننا في بعض الأحيان كنا نعطيهم أدويتنا، التي كانت نادرة جداً.
وبصدق، ساعدتنا تلك السياسة كثيراً في تحقيق النجاح في حربنا، لأنه في أي صراع عليك أن تكسب احترام الخصم (تصفيق). وأكرر، في أي صراع، يجب أن يكون سلوك الذين يدافعون عن قضية نبيلة متجهاً، بطريقة أو بأخرى، نحو كسب احترام الخصم.
في تلك المناسبة كان علينا أن نترك عدداً من الرفاق الجرحى الذي لم يكن بالوسع نقلهم، وكانت إصابات بعضهم خطيرة جداً. ولكن ما كان له بالغ الأثر بي هو ما رواه لي بألم، وهو يتذكر تلك اللحظة التي كان يعرف فيها بأنه لا خلاص محتمل، وهو قام بالانحناء وبتقبيل جبهة ذلك الرفيق، الذي، وهو الجريح هناك، كان على علم بأنه سيموت لا محالة (تصفيق).
إنها بعض الأمور التي أذكرها لكم عن تشي كرجل، كإنسان ما فوق العادي.
بالإضافة لذلك كان رجلاً ذو ثقافة واسعة، كان رجلاً على درجة عالية من الذكاء؛ لقد ذكرتُ شدة مراسه، إرادته. وبعد انتصار الثورة، كان مستعداً لقبول أي مهمة توكل إليه. كان مديراً للمصرف الوطني الكوبي، حيث كان الأمر يحتاج لإنسان ثوري في تلك اللحظة، وفي أي لحظة طبعاً؛ ولكن الثورة كانت قد انتصرت للتو وكانت الموارد التي تتمتع بها قليلة جداً، لأن الاحتياطات كانت قد تمت سرقتها.
كان الأعداء يمازحون، يمازحون على الدوام، ونمازح نحن دائماً؛ ولكن الدعابة التي كان لها هدافاً سياسياً تروي بأنني قلت في أحد الأيام: يحتاج الأمر لإيكونوميستا (رجل اقتصاد). ولكن حدث اختلاط آنذاك واعتقدوا بأني قلت أن الأمر يحتاج لكومونيستا (إنسان شيوعي)، وأنه كان لهذا أن تم تعيين تشي (تصفيق). فتشي كان ثورياً، وكان شيوعياً، وكان رجل اقتصاد ممتاز (تصفيق)؛ فأن تكون اقتصادياً ممتازاً هو أمر يعتمد على فكرة ما يريد أن يفعله من يقود واحدة من جبهات اقتصاد البلاد، ومن يقود جبهة المصرف الوطني الكوبي، وهكذا فإنه في ميزته المزدوجة كشيوعي وكاقتصادي.. ليس أنه كان يحمل شهادة، وإنما لأنه كان قد قرأ كثيراً وذو ملاحظة شديدة.
كان تشي المروّج للعمل التطوعي في بلدنا، لأنه في يوم الأحد من كل أسبوع كان يذهب مرة للقيام بعمل تطوعي في الزراعة، وأخرى لتجريب آلة، وأخرى للقيام بأعمال بناء. ترك لنا إرث تلك الممارسة التي استقطبت، بقدوته هو، حب الملايين من أبناء وطننا أو التحاقهم بها أو ممارستها.
أنها كثيرة الذكريات التي تركها لنا، ولهذا السبب أنا أقول بأنه أحد أكثر الرجال الذين عرفتهم نبلاً، ومن أكثرهم فوقاً للعادية وأكثرهم نزاهة، الأمر الذي لا يكون له معنى إذا لم يؤمن المرء بأن رجالاً مثله يوجدون بالملايين والملايين والملايين بين الجماهير ((تصفيق).
ليس بوسع الرجال الذين يبرزون على نحو انفرادي أن يفعلوا شيئاً لو لم يكن عند ملايين كثيرة، مثلهم، البذرة أو لم يكن عندهم القدرة على اكتساب هذه المزايا. ولهذا أبدت ثورتنا كل ما أبدت من اهتمام بمحو الأمية وبتطوير التعليم (تصفيق).
إذ كنت في السابق أقول بأن الأفكار هي أقوى من الأسلحة، والتعليم هو الأداة الأروع لتحوّل هذا الكائن الحي وهو الإنسان، والذي يحتكم بقوة إلى الغريزة أو إلى قوانين طبيعية، والذي تطوّر، كما أثبت داروين ولا ينفي ذلك أحد اليوم… أقصد نظرية تطور الإنسان، وقلت بأن أحداً لا ينفي ذلك، لأنني أذكر اللحظة التي صرح فيها البابا يوحنا بولس الثاني بأن نظرية تطور الإنسان ليست بنظرية غير قابلة للتوفيق مع عقيدة التكوين. وفي الحقيقة أنني أشعر بتقدير كبير لبوادر كهذه، لأنه انتهى من الوجود تناقض كان يقوم بين نظرية علمية ومعتقد ديني. ولكن يمكن لهذا الإنسان أن يكون مجرد حيوان في الغابة إذا ما وضعوه هناك في الغابة؛ ولديه الذكاء، ويُعرف كم غراماً يوجد في رأس الإنسان، بل ويُعرف بأنه الكائن الحي الوحيد الذي يتواصل نمو دماغه بعد سنتين ونصف السنة من مولده، وأنتم تعرفون ذلك، أيها الطلبة الجامعيون، لا بد وأنكم قرأتم عنه. إن لهذا أثراً هائلاً في تطور الذكاء.
الطفل الذي يتغذى بكل العناصر الملائمة حتى يكمّل السنتين ونصف السنة يصل إلى سنّ الست سنوات، مرحلة الروضة أو الابتدائية، بذكاء متدنٍّ، بالمقارنة مع الأطفال الذي يتغذون بالشكل الملائم (تصفيق). ومن واجبي القول أن أحد الأمور الأكثر ضرورية، إذا أردنا مساواة، هو على الأقل الحق بالوصول إلى الست سنوات بالقدرة الذهنية التي يولد بها الطفل، ونعرف بأن أولئك الذين لا يتغذون بالشكل الملائم في هذه الأعمار –ويبلغ عددهم في العالم مئات الملايين- فإنهم يصلون إلى السن المدرسي –إذا كانت هناك مدارس، وإذا كان هناك معلمين مؤهلين لتعليمهم- بإمكانيات أدنى للتعلم؛ مع أنه يمكن أن يحصل كذلك أنه رغم تغذيهم بالشكل ملائم في هذا العمر ولا يكون عندهم مدارس ولا معلمين (تصفيق).
ولكن، ماذا يحدث بالنسبة لأفقر القطاعات على وجه الأرض، المتركزة بشكل أساسي في بلدان العالم الثالث، الذي ينتمي إليه أربعة أخماس أبناء البشرية؟ الحاصل هو أنه يتركز في هذه المناطق الفقراء والجائعون، والذين لا يستطيعون تحقيق مستوى من القدرة القائمة، وليس من القدرة المطوَّرة، أولئك الذين لا يتمتعون ولا حتى بمدارس.
إذا ما قيل لكم بأن هناك 860 مليون أمي راشد في العالم، يشرحون لكم على الفور بأن 90 بالمائة من هؤلاء ال 860 مليون أمي يعيشون في العالم الثالث. يجب أن يضاف إلى ذلك أنه في بلدان متطورة جداً هناك أميون، عند جارنا الهائل القريب من وطننا هناك ملايين من الأميين (صفير وهتافات نابذة)، من الأميين كلياً؛ ولكن هناك عشرات الملايين من الأميين الوظيفيين. ولا يأخذنّ أحد ذلك… (نداءات: "طبيب"). ماذا تقولون، طبيب، ماذا يقال عن الطبيب؟ (يقولون له شيئاً).
لقد قلت عشرات، والحقيقة أنهم عشرات. حسناً، لا، لا، ليس في البلدان المتقدمة، إنني أتكلم عن العالم الثالث.
(يقولون له بأنهم يطلبون طبياً من أجل إسعاف شخص من بين الجمهور) طبيب؟ يوجد طبيب هنا، أين يحتاج له الأمر؟ حسناً، دعوا الرفيق يمرّ، بسرعة. لقد أرسلنا طبيباً، سترون بأي سرعة سيصل.
كنت أحدثكم –وأنا أتمادى في الحديث رغماً عن إرادتي- عن مشكلتين هامتين جداً، مترابطتين جداً فيما بينهما، تسمّيان تعليم وصحة. حسناً، كنّا نتحدث عن طبيب أرجنتيني تحوّل إلى جندي بدون أن يكف عن كونه طبيباً ولو لدقيقة واحدة، وهو ما جرّنا لشرح هذه الأمور، ثم ذكرت لكم بأن التعليم هو ما يحوّل هذا الكائن من مجرد حيوان إلى إنسان. لا تنسوا ذلك (تصفيق)، إنه التعليم ما هو قادر على جعله يتجاوز الغرائز التي تأتيه من الطبيعة. بل وأنني أضيف فوق ذلك بأن التعليم هو من يستطيع تفريغ السجون، حيث يتواجد أولئك الذين لم يتلقوا تعليماً، الذين لم يتغذوا كما يجب؛ لأنه حتى في وطننا نفسه، تأخرنا في الاكتشاف بأنه مهما وُضعت قوانين، ومهما أقيمت مدارس، ومهما تأهل معلمون، سيكون هناك، لسبب أو لآخر، الكثير مما يتوجب فعله من أجل تعليم الإنسان. إن أثر التربية العائلية حاسم في مجتمعنا، لأن هناك مئات الآلاف من المهنيين الجامعيين والمثقفين.
عندما تذهب إلى السجن وتستطلع الشبان بين العشرين أو الثلاثين من العمر الذين يقبعون فيه تجد بأنهم يتحدرون من أكثر شرائح المواطنين كدحاً وفقراً (تصفيق)، يتحدرون مما يمكننا أن نسميه مناطق هامشية. وخلافاً لذلك، عندما تبحث في البنية الاجتماعية للمدارس التي يحلم بها كثيرون والتي يتم الوصول إليها عبر ملفات تعليمية ومستوى عالٍ من العلامات، تجد العكس، أن الأغلبية الساحقة هم أبناء لآباء مثقفين أو فنانين.
لاحِظوا بأنني لا أتكلم عن فارق طبقي من الناحية الاقتصادية؛ إن مشكلة إقامة مجتمع جديد هي مشكلة أصعب بكثير مما تبدو عليه، لأنها أمور كثيرة يتم اكتشافها في الطريق. فإذا بدأت أنت النضال بمكافحة 30 بالمائة من الأمية وما بين 90 بالمائة من الأمية التامة والوظيفية، فإنك تركز اهتمامك على هذه المهام، وبعدما تمر السنوات وعندما تجري دراسات أعمق للمجتمع يكون لك حينها أن تكتشف ما للتعليم من تأثير.
أستطيع أن أقول لكم أنه في أفقر القطاعات، المناطق الهامشية، حيث انحلال العائلة هو أكبر، لهذا الانحلال أثراً كبيراً. على سبيل المثال، تستطيع أن تلاحِظ أن 70 بالمائة يتحدرون من عائلات متفككة، وحيث يوجد حتى ما نسبته 19 % لا يعيشون مع الأب أو الأم، وإنما مع أحد الأقارب الذي يعتني به، وعندما تحدث هذه الحالة في عائلة من المثقفين، لا يلاحَظ ذات الأثر عند ذلك الإبن، ولو أن التفكك العائلي قد حدث. يمكثون بشكل عام مع الأب أو مع الأم؛ وفي بلدنا يبقون عادة مع الأم، وتشكل النساء في كوبا ما نسبته 65 بالمائة من القوة التقنية التي تتمتع بها البلاد (تصفيق). هكذا، كما أقول لكم، بل ويزيد عن ال 65 بالمائة بقليل، ولاحِظوا هذه الظواهر. ما الذي يستطيع تفسير ذلك غير التعليم؟ أي أن المستوى التعليمي للأبوين، حتى مع وجود ثورة، ما زال يؤثر بشكل هائل على مستقبل الأطفال لاحقاً.
يمكن تماماً أن يحدث في ظروف معينة، أن أبناء أبسط القطاعات، أو ذات المستوى الأدنى من المعارف، وأنا لا أتكلم عن الوضع الاقتصادي للعائلة، وإنما عن المستوى التعليمي للعائلة الذي يسير عادة باتجاه الديمومة على مدى عشرات السنين، فيستطيع المرء أن يقول آنذاك –كما طرحنا نحن في بعض الحالات-: إن هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بهذه المهمة أو يقدمون هذه المساعدة لن يكون أبناءهم أبداً مدراء شركات أو سيشغلون مناصب هامة؛ إنما تنتظرهم في المقام الأول السجون.
لقد درسنا نحن ذلك وبعض الأمور الأخرى، والتي من غير المناسب شرحها في هذه اللحظة. أذكر ذلك فقط لكي أقول أنه بدون ثورة تعليمية، بالغة العمق، سيظل الظلم وعدم المساواة سائدين حتى بما يتجاوز تلبية الاحتياجات المادية لجميع مواطني البلاد (تصفيق).
نحن نؤمّن في بلدنا ليتراً من الحليب لكل طفل حتى بلوغه السابعة (تصفيق). وبدولار واحد يرسله أحد ما يعيش في "الشمال" لصديق، يستطيع هذا أن يشتري من الحليب ما يغطي 104 أيام (تصفيق).
في بلدنا أجبرنا الحصار على التقنين، هذا الحصار الذي مر عليه 44 سنة (صفير)؛ ولكن لا يمكن العثور في بلدنا على طفل واحد بلا مدرسة، لا يوجد ولا واحد فقط بدون مدرسة (تصفيق).
بل وأن الأطفال الذين يولدون بمشكلات عقلية في بلدنا –وهذا هو أمر نعكف على دراسته بعمق، الأسباب التي تؤدي إلى أنواع مختلفة من التخلف العقلي، إن كان طفيفاً أو متوسطاً أو شديداً أو عميقاً، وكل واحد بمزاياه؛ ولحسن الحظ أن الحالات الطفيفة والمتوسطة هي الأكبر عدداً-، ولدينا في هذه اللحظات ملفّ كل واحد منهم، وليس ملفّ الأطفال فقط وإنما ملفات النيّف ومائة وأربعين ألفاً من الأشخاص من أعمار مختلفة ممن يعانون نوعاً ما من التخلف العقلي. جميع الأطفال الذين يعانون أي مشكلة من الإعاقة الجسدية أو العقلية، أو أعمى أو أخرس، أو أمراً أكثر هولاً: أعمى وطفيفا في ذات الوقت.
هناك كوارث بشرية لا بد من بحثها من أجل معرفتها، ونحن لم نكن نعرفها منذ اللحظة الأولى. كان من خلال الممارسة الطويلة والكفاح من أجل التعليم، كما كافحنا نحن، أن أخذنا باكتشاف هذه الأشياء.
لديهم مدارسة خاصة، هناك 55 ألف طفل يتعلّمون في مدارس خاصة.
طرحنا بأنه لا يكفي أن يذهب الطفل إلى مدرسة خاصة بين الصفين السادس والتاسع. طرحنا بأنه إذا كان هناك طفل في هذه المدرسة لا يستطيع الارتقاء إلى مستوى أعلى من المرحلة الممتدة بين الصف التاسع والثاني عشر، أي الثانوية، أو لاجتياز معارف تقنية، أي مدرسة تكنولوجية، فلينهِ الصف التاسع أو البقاء في المدرسة كل الوقت اللازم، فلعله احتاج لسنة أو سنتين إضافيتين، على أن يكون جاهزاً في النهاية لممارسة نوع العمل الذي يستطيع القيام به، وبالإضافة لذلك مع فرصة عمل مؤمنة (تصفيق).
لا يمكن الاستهانة بالفتيان الذين يعانون هذا النوع من المشكلات، فلديهم مزايا في كثير من الأمور، ولم نعد نكتفي، لا نستطيع أن نكتفي، لأننا نكون على غير وعي إن اكتفينا بتعليمهم ما يمكن تعليمه لطفل يعاني هذا النوع من الإعاقة الطفيفة والمتوسطة وهم الأغلبية.
يتم الاعتناء بهم جميعاً، أياً كان نوع الإعاقة التي يعانون منها. نستطيع أن نشعر بالارتياح لكونه، بالرغم من هذا الحصار الذي مرّ عليه 44 سنة، ليس هناك من طفل واحد يحتاج للتعليم الخاص لا يتمتع بفرصة الذهاب إلى المدرسة (تصفيق).
أود أن أضيف معلومة، ولا يأخذن أحد ذلك على محمل الغرور من جانب شعبنا، لأن ما أقوله دائماً فيما يتعلق بما فعلناه من أجل التعليم والصحة يبعث عندنا الخجل بقدر اكتشافنا إمكانيات جديدة وجديدة، نشعر بالخجل لعدم اكتشافها من قبل. لا يظنّن أحد بأن كوبا تتباهى بالنجاح، أستطيع أن أؤكد لكم شيئاً لم نكن حتى نحن نعرفه.
أجرينا مقارنات في معطيات منظمة اليونيسكو والأبحاث التي أجرتها حول المستويات التعليمية، ورأينا بأن معارف أطفال الصفين الرابع والخامس في بلدنا في مادتي اللغة والرياضيات تضاعف تقريباً معارف أطفال بقية أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة أيضاً، لا تظنّن أمريكا اللاتينية فقط (تصفيق).
أعرف أنني أحدّثكم عن بلد يتمتع بمستويات عالية من التعليم والثقافة؛ أعرف كيف هو الشعب الأرجنتيني ومعارفه. يتمتع بلدنا اليوم بمعارف أعلى، ولكن الأرجنتين هي من بين البلدان الأخرى، الأربعة أو الخمسة، القريبة من مستويات بلدنا، مع أنه بفارق كبير نسبياً؛ ولكن لفت انتباهنا على نحو أكبر حين اكتشفنا بأن أطفال مرحلتنا الابتدائية ومعارفهم باللغة والرياضيات تتجاوز معارف أطفال البلدان الأكثر تقدماً في العالم (تصفيق).
أي أن بلدنا يشغل اليوم هذا المكان، على ذات النحو الذي تدنو فيه نسبة الوفيات بين الأطفال في بلدنا عن السبعة بين كل ألف مولود حي –بلغت في العام الأخير 6.5؛ وكانت في العام الذي سبقه 6.2-، ونحن نفكّر بخفضها. ولا حتى كنّا نعلم إن كان يمكن في بلد مداري خفض نسبة الوفيات بين الأطفال إلى هذه المستويات، لأن هناك عوامل كثيرة لها تأثير: فللمناخ أثر، بل وللقدرة التناسلية الكامنة عند كل شعب أثر؛ وهذه عوامل عدا عن عوامل العناية، والعوامل الغذائية، إلى آخره. لم نكن ندري إن كان بالإمكان خفضها دون العشرة، وقد كان تحقيق ذلك مشجعاً كبيراً لنا.
لا تظنّن أن العاصمة هي التي تتمتع بأفضل المؤشرات، فهناك محافظات كاملة تتمتع بمؤشر يدنو حتى عن خمسة من وفيات الأطفال، وهذا المؤشر هو مؤشر متكافئ تقريباً. لا يحدث كما يحدث في البلد المجاور لنا، حيث يمكن للمؤشر أن يبلغ في بعض الأماكن، حيث يعيش أصحاب الموارد الأوفر، وأفضل عناية وغذاء، إلى آخره، إلى آخره، أربعة أو خمسة، وفي أماكن أخرى، كعاصمة الولايات المتحدة نفسها، حيث يوجد كثيرون من الفقراء وحيث توجد مجموعات من الأقليات، الأفرو-أمريكيين، الذين لا يحظون بعناية طبية ملائمة، يمكن أن تبلغ الوفيات ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف أو خمسة أضعاف ما هي عليه نسبة الوفيات بين الأطفال في أماكن معينة تتلقى جميع أنواع العناية (تصفيق).
نعرف ما يحدث للاتينيين وللأفرو-أمريكيين ولأبناء مناطق أخرى من العالم، مؤشرات الوفيات الأطفال عندهم، ومؤشرات الأمل في الحياة، والمؤشرات الصحية، على ذات النحو الذي نعرف فيه بأن هناك أكثر من أربعين مليون أمريكي لا تؤمَّن لهم العناية الطبية.
عندما أتكلم عن الأمريكيين لا أتكلم أبداً بحقد، لأن ثورتنا لم تعلّم على الحقد؛ إنها تقوم على أساس أفكار وليس على أساس تعصب، وليس على أساس شوفينية (تصفيق وهتافات). لقد كان لنا امتياز التعلّم بأننا جميعنا أخوة، ويتهذب شعبنا على مشاعر الصداقة والتضامن، الأمر الذي نصفه بأنه مشاعر أممية (تصفيق وهتافات).
مئات الآلاف من أبناء وطننا مرّوا بهذه المدرسة، ولهذا السبب أستطيع القول بأنه ليس بالأمر السهل القضاء على الثورة، ليس من السهل دحر إرادة هذا الشعب، بفضل هذه الأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تم زرعها، لأن الأفكار والمشاعر على حد سواء يجب زرعها، ونحن ننطلق من هذه الحقيقة؛ ولكن الشعب الذي يحقق مستويات معينة من المعرفة والقدرة على فهم المشكلات، والقدرة على الوحدة والالتزام ليس من السهل إزالته من على وجه الأرض (تصفيق وهتافات). ولهذا السبب، وبالرغم من تلك النظريات النازية-الفاشية، لدينا قناعة بأن أي هجوم على بلدنا من شأنه أن يكلّف، كما سبق وذكرت، ثمناً باهظاً جداً، لأنه شعب لن يستسلم أبداً، لن يكف عن النضال أبداً (تصفيق وهتافات)، وما دام هناك رجل واحد أو امرأة واحدة قادرة على القتال، فإن هذا الرجل أو هذه الامرأة ستواصل القتال.
مع معرفة بلدنا لهذا الخصم على مدى عقود كثيرة، كان عليه أن يتعلم الدفاع عن نفسه. لا يلقي بلدنا قنابل على شعوب أخرى، ولا يرسل آلاف الطائرات لقصف مدن؛ لا يملك بلدنا أسلحة نووية، ولا أسلحة كيماوية، ولا أسلحة بيولوجية (تصفيق وهتافات). لقد تربي عشرات الآلاف من العلماء والأطباء الذين يتمتع بهم على فكرة إنقاذ الأرواح (تصفيق). إنما هو أمر من شأنه أن يكون على تناقض تام مع مفهوم جعل عالم أو طبيب ينتج مواد أو جراثيم أو فيروسات قادرة على إلحاق الموت بكائنات بشرية أخرى.
بل وأنها لم تغب الاتهامات لكوبا بأنها تجري أبحاثاً على أسلحة بيولوجية. يتم في بلدنا القيام بأبحاث من أجل معالجة أمراض بالغة القسوة كداء السحايا، والتهاب الكبد، وذلك من خلال حقن ينتجها فنيون في الهندسة الوراثية، أو أمر بالغ الأهمية، البحث عن جرعة أو معادلة علاجية من خلال المناعة الجزيئية –أعذروني على استخدامي لهذه الكلمة التقنية، تعني من خلال أساليب تهاجِم الخلايا الخبيثة مباشرة-؛ وأخرى يمكنها الوقاية، وأخرى يمكنها حتى العلاج، ونحن نحقق قفزات في هذه الطرق. هذا هو فخر أطبائنا ومراكز بحثنا.
عشرات الآلاف من الأطباء الكوبيين قدموا خدمات أممية في أكثر الأماكن عزلها وصعوبة في الوصول إليها. قلت يوماً بأنه لا يمكننا نحن ولا من شأننا أن نقوم أبداً بهجمات وقائية ومفاجئة ضد أي ركن مظلم من العالم؛ ولكن، خلافاً لذلك، بلدنا قادر على إرسال كل الأطباء الذين يحتاجهم الأمر إلى أكثر أركان العالم ظلمة (تصفيق وهتافات). أطباء وليس قنابل، أطباء وليس أسلحة ذكية، دقيقة الإصابة للهدف، لأنه في نهاية الأمر السلاح الذي يقتل على نحو غادر ليس بسلاح ذكي على الإطلاق (تصفيق وهتافات تحيي فيدل كاسترو).
كما تلاحظون، كلماتي الموجهة إليكم تتمحور حول هذه المسائل، وهي التي تشكل بالنسبة إلينا أكبر مفخرة للثورة.
هناك من يؤكدون بأن الثورة في كوبا هي على وضع جيد جداً وأنها تتبع سياسة صائبة جداً في التعليم –على الأقل بعترفون بذلك-، وفي الصحة العامة –على الأقل بعترفون بذلك-، وأنها تتمتع في مجال الرياضة بمستوى جيد، وهذا الشعارات التي تفوهتم بها لتحيتي سمعتها في أحد أنواع الرياضة (ضحك)، الذي أنتم أبطال فيه، وتتقاسمون هذا الشرف مع البرازيليين (شعارات تحيي فيدل كاسترو). ولكن سيكون عليهم أن يقولوا، ولا ينبغي أن يتأخروا كثيراً في القول، بأن كوبا تتقدم بشكل متسارع في مجال الثقافة والفنون (تصفيق). ولن نسعى فقط لثقافة فنية، وإنما سنسعى لثقافة عامة متكاملة.
يمكنني أن أعطيكم بعض الأنباء غير المعروفة كثيراً: عدد الجامعات في بلدنا ليس أنه تضاعف في السنوات الثلاث الأخيرة، فمن عدد قليل كان متوفراً، كلية طب واحدة، أصبح لدينا اليوم 22 كلية طب، منها واحدة تحمل اسم المدرسة الأمريكية اللاتينية للعلوم الطبية (تصفيق) ومن المعروف أن الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة، وخاصة واحدة منها وهي الطب، تبلغ ما لا يقل عن 200 ألف دولار (هتافات).
عندمات يتخرج من هذه المدرسة، العاملة منذ بضع سنوات، عشرة آلاف طالب، في هذا المجال وحده، إنما يكون بلدنا يقدم تعاوناً لبلدان العالم الثالث يعادل ألفي مليون دولار، مما يشكل دليلاً على أنه إذا ما استرشد بلد بأفكار عادلة، ولو كان بلداً فقيراً، فقيراً جداً، يستطيع أن يفعل من الأمور ما هو أكثر بكثير (تصفيق).
إنه البلد المحاصر منذ 44 سنة؛ وهو البلد الذي شددت الإمبريالية أكثر بعد إجراءاتها الاقتصادية عبر قانوني توريسيللي وهيلمز-بيرتون عندما انهار المعسكر الاشتراكي، الذي كنا نقيم معه علاقتنا التجارية ونؤمن مؤننا-عبرالشراء وعبر التبادل (صفير وهتافات نابذة).
بالإضافة لذلك، هناك قانون مجرم نسميه نحن "قانون الضبط المجرم الخاص بالكوبيين"، غير قابل للتطبيق إلا على بلد واحد في العالم: كوبا. وأي أحد لا يمنحونه التأشيرة أبداً، بسبب السابقة الجنائية كذا أو لأي سبب كان، إذا وصل في زورق قام هو بسرقته أو طائرة قام بسرقتها، او عبر أي وسيلة كانت، يمنحونه تلقائياً الحق بالإقامة، أو حتى بالعمل في اليوم التالي.
لاحِظوا: على حدود المكسيك مع الولايات المتحدة يموت حوالي 500 شخص سنوياً ويعانون موتاً رهيباً، لأنهم اقترحوا على ذلك البلد، أو فرضوا عليه –كيفما اتفق- معاهدة تدعى "معاهدة التجارة الحرة" تنص على حرية حركة السلع ورؤوس الأموال، وليس حركة أبناء البشر (تصفيق)، وفي الوقت الذي يطبّقون فيه على بلدنا قانون الضبط هذا، الذي لا نطالب به للآخرين لأنه قانون قاتل، إنما نعم طرحنا بأن يمنح أولئك السادة، الذين يتهمون كل العالم بانتهاك حقوق الإنسان، أمراً للكائن البشري لا يمكن فعله إلا بالنسبة لكوبا على أساس افتراءات دنيئة ومخجلة وأكاذيب تافهة. إنهم يتسببون بمقتل مئات المكسيكيين والأمريكيين اللاتينيين سنوياً هناك، حيث يموت سنوياً من أبناء البشر عدداً أكبر من كل الذين ماتوا خلال التسع وعشرين سنة التي دامها وجود جدار برلين (تصفيق).
لقد تكلموا عن جدار برلين ملايين وملايين المرات؛ ولكن لا وجود للأنباء، وإنما متفرقة جداً، عن المكسيكيين الذين يموتون في كل سنة أثناء محاولتهم اجتياز الحدود.
إذا كنت أمريكياً لاتينياً أو آسيوياً أو من أي بلد آخر وتصل إلى هناك بطريقة غير مشروعة وبقيت هناك وكان بوسعك أن تبقى، يسمونك لاجئ. إذا كان كوبياً فإن كنيته أصبحت مضمونة: إنهم منفيين.
لا يوجد في الولايات المتحدة منفيين كوبيين، رغم أن أكثر من مائة ألف يأتون سنوياً لزيارة أقاربهم في كوبا، ولكنهم ليسوا مهاجرين، إنهم منفيين؛ هذه هي الكلمة الموصومة بأساليبهم الغادرة لزرع الالتباس والكذب.
إنما نعم أستطيع أن أؤكد لكم بأن هذا القانون الذي طبّقوه علينا خلال 37 سنة، لو طبقوه على الأمريكيين اللاتينيين والكاريبيين، الذين يريدون أن يفرضوا عليهم "منطقة للتجارة الحرة خاصة بالأمريكتين" [ALCA] (هتافات)، منطقة للتجارة الحرة خاصة بالأمريكتين!، لو أنهم طبقوا عليهم هذه الحقوق –وأكرر، لا ننصح بذلك لأنه قانون قاتل، وهو للذين يصلون بطريقة غير مشروعة إلى البلاد-، أستطيع أن أؤكد لكم في الحقيقة أنه لما كان عندنا اليوم الـ 534 مليون نسمة الموجودين بين أمريكا اللاتينية والكاريبي، وبالتأكيد أنه لكان أكثر من نصف الأمريكيين متحدرين من أمريكا اللاتينية أو الكاريبي (تصفيق). (أحد ما من الجمهور يقول له شيئاً). لا بد من قول ذلك، ولكن بدون استخدام هذه الكلمة. بل ومن الأفضل استشفافها على قولها؛ فليتم الإمعان في ما هم عليه أولئك الذين يقودون ذلك البلد، وليس شعب ذلك البلد، الذي يذهب ضحية الخداع في أحيان كثيرة.
لدينا نحن الدليل على أنه ساند في مناسبات كثيرة قضايا شريرة، ولكن لكي يساند هذا الشعب قضية شريرة يجب خداعه أولاً، وفي هذا الشأن هم أخصائيون وهكذا كانوا على مر التاريخ، أخصائيون في الخداع (تصفيق)؛ ولكن عندما يعرف الحقيقة، ولنتذكر فيتنام، بأن الشعب الأمريكي لعب دوراً حاسماً في إنهاء حرب فيتنام؛ لأن ما يفكر به الزعماء، والرأي العام العالمي، رأيكم، رأي جميع الأمريكيين اللاتينيين، لا يهمهم كثيراً، إنما يهمهم ما يفكر به الناخبون داخل الولايات المتحدة، لأنهم يدلون بأصواتهم هناك. يمكن وجود غش، غش محدود أو غش هائل، كالذي شاهدناه في الانتخابات الأمريكية الأخيرة "السوبر ديمقراطية" (هتافات)، حيث حصل المرشح الخصم على عدد من الأصوات يزيد عن الذي حصل عليه المرشح "الفائز" –بين قوسين كبيرين جداً- بنصف مليون صوت.
العالم بأسره يعلم على نحو دقيق ما حدث هناك، ولا يراود الشك أي أمريكي في ذلك، أناليمين المتطرف، بدعم من المافيا الإرهابية الكوبية-الأمريكية، من خلال الغش، انتزع النصر من الخصم. لن أدخل في القول أي منهما أكثر ديمقراطية أو أقل ديمقراطية، فأنا لست مسجلاً في أي من الحزب، لأنه في نهاية المطاف يمكن القول بأنه يسود هناك حكم الحزب الواحد (تصفيق).
يمكن لبعضهم أن يقول: ولكن، أليس لديكم في كوبا حزباً واحداً؟ أقول: نعم، ولكن حزبنا لا يرشِّح ولا ينتخِب. مندوبو الدوائر الانتخابية، الذين هم أساس نظامنا، يقترحهم الشعب في جمعيات تعقدها كل دائرة انتخابية (تصفيق)؛ لا يمكن أن يكون عددهم أقل من اثنين، ولا أكثر من ثمانية، ومن حوالي 50 بالمائة من مندوبي الدوائر الانتخابية، التي تتكون منها الجمعية البلدية في كل واحدة من بلديات البلاد، أولئك الذين يقترحهم وينتخبهم الشعب، في انتخابات يجب أن يتمتعوا فيها بأكثر من خمسين بالمائة من عدد الأصوات، تتكون الجمعية الوطنية الكوبية، البالغ عدد مندوبيها أكثر من 600 بقليل، نحو 50 بالمائة من هؤلاء المندوبين عن الدوائر الانتخابية، الذين لا يتمثل دورهم في تكوين الجمعية البلدية فقط، وإنما كذلك في اقتراح المرشحين للجمعيات الإقليمية وللجمعية الوطنية.
لن أطيل، ولكن في الحقيقة أن بودي أن تكون هناك معرفة أكبر يوماً بالنظام الانتخابي الكوبي؛ لأنه يبعث الدهشة أحياناً أن يسألنا بعضهم من هناك، من "الشمال"، متى سيتم إجراء انتخابات في كوبا. السؤال يمكننا أن نطرحه نحن الكوبيون ونقول لهم: متى يتوجب على المرء أن يكون بليونيراً لكي يصل إلى رئاسة الولايات المتحدة (هتافات)؛ بل، وليس من الضروري أن يكون المرشح بليونيراً، وإنما السؤال كم ألف مليون يحتاج المرشح لكي يتم انتخابه رئيساً وكم يكلّف كل منصب، حتى مجرّد منصب بلديّ.
لا يحدث هذا في بلدنا ولا يمكنه أن يحدث. لا يتم ملء الجدران بالمناشير، ولا يتم استخدام التلفزيون بشكل واسع برسائل من هذه دون الأدنى، أعتقد أن هذا هو اسمها، تستطيعون أنتم المحامين أن تعرفوا ذلك، نسيت بأنني أنا أيضاً كنت محامياً (ضحك).
ما هو الدور الذي لعبته تلك الوسائل، لسوء الحظ، في ذلك البلد وفي أماكن كثيرة من العالم؟ أنا لا أقوم بمهاجمتها.
لقد ذكرت لكم الحالة التي تثبت كيف أن الشعب الأمريكي، عندما يعرف الحقيقة، يمكنه أن يساند قضية نبيلة: حالة الطفل إليان غونزاليز، الذي اختطف قبل ثلاث سنوات ونصف السنة. لقد عاد هذا الطفل عندما عرف الشعب الحقيقة وأيّد عودته أكثر من ثمانين بالمائة من الأمريكيين (تصفيق).
صحيح أنه أثناء حرب فيتنام، ليس فقط أنهم أخذوا يعرفوا الحقيقة، وإنما كان هناك عاملاً هاماً مؤثراً: عودة شبان قتلى، ممن تم حملهم إلى هناك عبر الخدمة العسكرية. في حال الطفل لم يكن هناك شيء من هذا، تمكنّا من جعل الشعب الأمريكي يعرف ما لنا من حق، وكان ذلك من خلال الشبكات التلفزيونية، لأن مسيرة يشارك بها 600 ألف أُم كالتي قامت في هافانا هو أمر غير معهود، أو تظاهر مئات الآلاف من الأطفال، أو تظاهر مليون شخص أمام مكتب رعاية المصالح أو تظاهر مليون شخص في أماكن كثيرة بشكل متزامن، أو الحشود الجماهيرية الواسعة، وكل هذه نشاطات نقلتها كبرى الشبكات التلفزيونية عبر العالم. كانت هناك مهرجانات، كذلك المهرجان الذي تم فيه إحياء الذكرى الخامسة والعشرين لتفجير طائرة تابعة لشركة الخطوط الكوبية وهي في الجو ضحية عمل إرهابي، والذي بثته أربعون شبكة عالمية.
يوجد اليوم طريقة لبث الرسائل. توجد أقمار اصطناعية يمكنها أن تبث شارة؛ ويوجد –كما تعرفون أنتم الطلاب أكثر من أي أحد آخر- شبكة إنترنيت التي يمكنها السماح بتوجيه رسالة إلى أي ركن من العالم، ولو لم يكن مظلماً، لأنه في الواقع الذين لديهم إنترنيت، بشكل عام، لديهم أيضاً كهرباء وإمكانيات للاتصال فيما بينهم؛ ولكن لا ينبغي الاستخفاف بهذه الشرائح من المثقفين، الذين يبلغون في العالم عشرات وعشرات الملايين وليس من الضروري أن يكونوا طبقة مستغِلة أو ثرية.
لا بد من رؤية، على سبيل المثل، ما حدث في سياتل، تذكّروا؛ وتذكروا كيبيك؛ تذكروا المظاهرات الصاخبة التي أصبحت تقوم في أي مكان من العالم، ويتم تنظيمها من خلال إنترنيت، من قبل أشخاص ذوي ثقافة وذوي معارف، وهناك أمور كثيرة تهدد اليوم حياة كوكبنا، إضافة للحروب، التغيرات المناخية، تدمير طبقة الأوزون، ارتفاع حرارة الغلاف الجوي، تسمم الغلاف الجوي والأنهار والبحار، والتي تهدد حياة كل الكوكب. وفي هذا الأمر عند كل شعوب العالم قضية مشتركة مع الأمريكيين اللاتينيين، مع الأمريكيين، ومع الأوروبيين.
الكوارث تقفز من واحدة إلى أخرى. يوجد اليوم أمراض لم تكن موجودة قبل 25 أو ثلاثين سنة. فداء الأيدز لم يكن موجوداً قبل 25 سنة، وأولئك الذين يملكون أفضل المخابر إنما هم يكرسون جهودهم للعلاج، وليس للوقاية، ليس للحقن، لأن العلاج –كما هو معروف تمام المعرفة- الذي يباع بعشرة آلاف دولار سنوياً ويجب تكرار هذا العلاج في كل سنة، يعود بنتائج أكبر. بكل بساطة، عائدات الطب العلاجي هي أعلى بكثير من عائدات الطب الوقائي (تصفيق).
ظهر الآن فيروس التهاب الرئة غير التقليدي (SARS)، في وقت لم يكن يتوقعه فيه أحد؛ أو حمى النيل، التي جاءت من شمال شرق الولايات المتحدة، وطبعاً وصلت إليها قادمة من مكان آخر ما في العالم؛ أو حمى الضنك الشهيرة، التي يكثر الحديث عنها، وتظهر بأربعة أشكال مختلفة من الفيروس، وخليط بعضها وبعضها الآخر يؤدي إلى نشوء أمراض معقدة كحمى الضنك النزيفية.
أقول لكم ذلك باسم بلد عانى بنفسه استخدام فيروس وبكتيريا لمهاجمة زراعتنا، بل وضد مواطنينا. أؤكد لكم ذلك بدون مبالغة، لا يكون عندي أنا ذرّة من الحياء إن قلت لكم كذبة واحدة. نحن نعرف بعض الأمور ولدينا أدلة عليها جميعاً تقريباً، عندما نتكلم عن بعض من هذه المشكلات (تصفيق).
ولكنني كنت في الحديث عن أنه يوجد اليوم وسائل للاتصال في العالم، تجعلنا أقل ضحية أو تبعية لوسائل الإعلام الكبرى أياً كانت، لأنه في يومنا هذا، مع التمتع بعناوين، ومع التمتع بشبكة الإنترنيت هذه في العالم، فإن جميع الذين يراودهم حلماً، أملاً، قضية تعكّر طمأنينتهم، أو تفكيراً منهم بشكل أساسي، ليس بنفسهم، وإنما بأبنائهم، يصنعون قضية مشتركة فيما بينهم، سواء كانوا من بلدان نامية أو غنية؛ لأنها في الواقع مشكلات جديدة.
يجب التمعن في الحجم الهائل من المشكلات الجديدة التي أخذت بالظهور في العالم، بالإضافة للتهديدات بالحرب واستخدام هذه الأسلحة الهمجية والوحشية، وذلك في مرحلة من تاريخ لم يثبت فيها الإنسان بعد قدرته على البقاء، ويمكن تدميره عشر مرات من قبل قوة واحدة وحيدة، على أساس الاحتكار التكنولوجي والأسلحة التي من شأنها أن تكون كافية لسحق كل دول العالم الأخرى.
من هذه المشكلات هنالك عدد متزايد من الملايين آخذ بالتعلّم، ولهم في مراكز التعليم، في المراكز الجامعية أن يأخذوا باكتساب الثقافة اللازمة لمعرفة ما عليه عالم اليوم، وما هو صندوق النقد، وما هو البنك العالمي، وماذا تعني الديون البالغة 800 ألف مليون دولار في أمريكا اللاتينية (تصفيق).
عندما تشرفت بزيارة بوينوس أيريس، التي لا أنساها، وخاصة اليوم في عودتي إليها، مع أنها لم تفارق ذاكرتي أبداً، كانت ديون أمريكا اللاتينية تبلغ 5000 مليون دولار؛ أصبحت اليوم تبلغ 170 ضعف هذا الرقم. كانت الميزانيات تخصَّص في السابق للمدارس، للمستشفيات، إلى حد ما؛ والأرجنتينيون يعرفون ذلك تماماً، لأننا أخذنا نسمع عن الأرجنتين منذ زمن طويل؛ ونعرف ما كان لديها من مستويات تعليمية وصحية، وغير هذين من الأمور. ولكن اسمحوا لي ألا أتحدث عن هذه الحالة بالتحديد؛ إنني أذكر هذه الحالة في الواقع لأنكم حققتهم مستويات رفيعة، وهو أمر معروف، كما هو معروف بأنه يوجد رأسين من البقر –ولا أحكي عن الباقي- مقابل كل فرد في البلاد؛ والمستويات المحرزة في الجانب الاجتماعي هامة جداً.
ولكن العالم الذي نعيش فيه، أكرر، هو عالم مختلف جداً. هناك مشكلات كثيرة لم يكن بوسع كبار المفكرين السياسيين والاجتماعيين قراءتها، من على كل تلك المسافة، مع أن معارفهم كانت حاسمة في تحويلنا إلى أشخاص ذوي أفكار ثورية. لا ينبغي نسيان هذه الحقيقة.
لقد بدأنا في بلدنا بالجامعات، كانت هناك لحظات لم يكن يتم فيها تعليم الكمبيوتر في الجامعات، وشرعنا بذلك شيئاً فشيئا؛ وفيما بعد أقمنا 170 نادىٍ للشباب (Joven Club) للكمبيوتر، وقبل مدة ليست طويلة من الزمن ضاعفنا هذا العدد إلى 300، بضعف عدد أجهزة الكمبيوتر؛ ولكن الأمر الأساسي هو أن مائة بالمائة من الأطفال في بلدنا، بدءاً من مرحلة الروضة وحتى المرحلة الجامعية، يتمتعون بمختبرات كمبيوتر، وقد اكتشفنا الإمكانيات الهائلة التي يتيحها ذلك (تصفيق). ودخلنا الآن في مرحلة توسيعها ونعمل بشكل مكثف في أمور أخرى، لا نتكلم عنها كثيراً، ولكن يتم تأهيل فنيين في البرمجة بأعداد تصل إلى عشرات الآلاف.
لأولئك الذين يقولون بأن كوبا قد تقدمت في هذا وفي ذاك، الأمور التي ذكرتها والثقافة المذكورة، نستطيع أن نقول لهم بأن الجامعات تمتد في بلدنا اليوم إلى البلديات، منذ اللحظة التي أصبح فيها 800 ألف مواطن كوبي خريجين جامعيين أو هم مثقفين (تصفيق). على نحو أصبح يوجد فيه اليوم خريجَين جامعيَّين مقابل كل طالب كان قد أنجز الصف السادس عندما انتصرت الثورة (تصفيق). يتم تطوير مجتمع تمتد فيه المعارف والثقافة بشكل واسع وحيث سيتم تحقيق الحلم بجعل هذه المعارف وهذه الثقافة جماهيرية (تصفيق). جعلها جماهيرية في مصنع للسكر، في بلدية، لأنه يوجد فيها ما يكفي من الاقتصاديين؛ إذا احتاج الأمر لأحد يعطي دروساً في الاقتصاد في أحد المراكز التي يجري تطويرها، أو درساً من أي نوع من العلوم الإنسانية أو الآداب، أو درساً في اختصاص فني، كهندسة الميكانيك، أو غيرها كثيرة؛ يمكن لحال الطب أن يشكل حالة استثنائية، حيث تقوم الكليات إلى جانب المستشفيات، ومنذ السنة الثالثة على صلة مباشرة ليس فقط بالنظرية، وإنما بالتطبيق أيضاً (تصفيق).
لماذا امتدت بهذه السرعة؟ لأنه أثناء بحثنا بالذات عن أسباب مشكلات اجتماعية معينة وجدنا أنه كان هناك عدد كبير من الشبان، بين 17 و30 سنة، ممن اجتازوا الصف التاسع، لم يكونوا يدرسون ولا يعملون؛ فبحثنا آنذاك عن الأسباب، وتم التحدث مع كل واحد منهم، وفجأة قامت المدارس التي تحمل اليوم اسم "المدارس الشبابية لتطوير ثقافة عامة متكاملة". تسجل في العام الأول 85 ألف طالب، وفي العام الدراسي الثاني، العام الحالي، يوجد 110 آلاف تلميذ (تصفيق). وماذا ستقولون أنتم إن أكدت لكم بأنه في العام الدراسي المقبل، الذي يبدأ في شهر أيلول/سبتمبر، سيبدأ 35 ألفاً من هؤلاء الشبان دراسات جامعية (تصفيق).
ماذا فعلنا؟ ماذا استخدمنا؟ في جميع البلديات وفي جميع مصانع السكر، على سبيل المثال، كان هناك مدارس مرحلة متوسطة وفي بعض الأحيان فنيين من المستوى المتوسط أو الثانوي، من التعليم الخارجي، وهي المدارس التي تنتهي صفوفها في الساعة الرابعة والنصف عصراً، وكان يتوفر فيها جميعاً مختبرات كمبيوتر ووسائل مسموعة ومرئية، فبدأت آنذاك دروس هذه الدورة من "التأهيل التكاملي للشبان"، وذلك من الساعة الخامسة وحتى الثامنة مساءً الدراسة في هذه المنشآت نفسها، بأساتذة جدد أو بنفس الأساتذة الذين كانوا يعلّمون فيها، أو أساتذة كانوا قد تقاعدوا، وما يستطيعون فعله بمساعدة هذه الوسائل هو معجزات، أؤكد لكم ذلك.
على هذا النحو أصبح اليوم يجري دفع راتب لهم مقابل أن يدرسوا (تصفيق). قامت على هذا النحو عبر هذه التجربة وظيفة الدراسة.
المسألة أنه في أحيان كثيرة لا يتم التفكير بأن الإنسان، ولو كان فقيراً، يعيش في مكان، ولو كان في غرفة، ويستخدم حافلة. في حالتنا نحن، الضمان الاجتماعي مؤمن له؛ وفي حالتنا نحن، 85 المائة هم مالكين لمنازلهم (تصفيق)، ولا يدفعون ضرائب على ملكية المسكن (تصفيق). لاحِظوا جيداً، أودّ أن أوضح أنني لا أنصح بشيء، وإنما أود بكل بساطة أن أشرح لكم ما نعكف على فعله، ولماذا نحافظ على بقائنا، ولماذا يساند الشعب القضية الثورية بشكل واسع.
إذا كان الكيلواط الواحد يكلف نصف سنت من الدولار، وإذا كانت كمية معينة من المواد الغذائية الأساسية تكلف الأسعار التي ذكرتها لكم، وإذا كانت كمية الأرز التي يتم تسليمها بسعر متدنٍّ جدً، يمكن أيضاً بدولار واحد يتم صرفه بالبيسو، على أساس سعر 25 لليبرة، أو بصرف 26 بيسو مقابل الدولار الواحد، تستطيع العائلة، أو الشخص أن يشتري 105 ليبرات من الأرز، دولار واحد (تصفيق). هناك محال أخرى تباع السلع فيها بأسعار أكثر ارتفاعاً، وكل ما له صلة بالكماليات أو الأمور الضرورية.
تبلغ أسعار الأدوية في بلدنا نصف ما كانت تبلغه قبل 44 سنة، لأنه تم خفضها آنذاك إلى النصف، وما زالت أسعار تلك المنتجات قائمة حتى اليوم بهذه الأسعار.
أكرر مجدداً بأنني أحكي ذلك من أجل الشرح.
العناية الطبية هي ذات نوعية، نعم، هي أفضل يوماً بعد يوم، لأننا نقوم ببذل جهود كبيرة في هذا المجال، إنها مجانية لجميع المواطنين بالتساوي، سواء كانت جراحة للقلب أو قلب مفتوح، أو كان زكاماً.
التعليم، بجودة أفضل يوماً بعد يوم، وهو مجاني على الإطلاق، بدءاً من مرحلة الروضة وحتى حيازة الدكتوراه في العلوم، بدون أن يكلّف مواطنينا سنتاً واحداً (تصفيق)، وهو أحد الأسباب التي تجعل مواطنينا على درجة عالية من الطمأنينة. ولكننا نقوم بالانتقال اليوم إلى مجتمع ذي ثقافة واسعة، وسيعيش بلدنا مستقبلاً من المنتجات الذهنية.
إذا لم تهبنا الطبيعة قدراً كبيراً من الموارد الأخرى، فإنه كان لنا امتياز التمتع بثورة أجبرنا على القيام بها جار جبّار، مع أننا لا نستطيع تحميل ذنب هذا الأمر الأخير لأحد، ربما لكريستوفر كولومبوس، لا أدري، فهو الذي اكتشفنا وجلب لنا الحضارة، كما تعرفون؛ مع أنه من شأنكم، أنتم الأرجنتينيين، لن تدركوا طبعاً تمام الإدراك، كما تدرك جمهورية هايتي، ما عناه الاستعمار. ولكننا لن ندخل في هذا النقاش. إنه منتج تاريخي.
من المعروف طبعاً أن مهاجرين كثيرين ذهبوا إلى هناك ضمن هجرة دينية، وجلبوا معهم ثقافة دينية. أنا أبرر بذلك حقيقة المثالية التي يتميز بها عادة المواطنون الأمريكيون وما يجعل هذا الشعب قادراً على دعم قضية عادلة إذا ما تمكنت حضرتك من إثبات الحقيقة له. لا ينبغي نسيانهم، وهم المهدَّدين كما نحن بكل الكوارث البيئية وغيرها من الكوارث التي تحدثت عنها. هناك أمور كثيرة مشتركة معهم وهم على قناعة كاملة، لديهم ما يدفعهم من الأسباب لكي يكونوا على قناعة كاملة بأن الذين يقودونهم لا يهمهم شيئاً التغير المناخي والبيئة. لأنني أتساءل عمّا يجعل هذا البلد، بكل ما يبلغه من الجبروت، ويستهلك 25 بالمائة من الطاقة العالمية وينتج أكبر كمية من ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات السامة، يتخلى عن معاهدة كيوتو. كونوا على ثقة بأن ذات القلق الذي يساوركم ويساور الآخرين بشأن كل هذه المشكلات يساور عشرات الملايين من الأمريكيين.
لقد قلت: حسناً، لدينا جاراً بالغ الجبروت، ولكن الحظ كان حليفنا في التمكن من النمو وتنمية ذكاء أبناء وطننا بشك واسع.
مائة بالمائة من الأطفال ينهون الصف السادس وأكثر من 99 بالمائة ينهون الصف التاسع في بلدنا، والآن دخلنا في مرحلة التعليم الجماعي، استخدام وسائل مسموعة ومرئية، واستخدامها على نحو وافٍ ليس من أجل زرع السم، وليس لكي يفكر أحد عن أحد آخر؛ لأنه سبق وذكرت بأنه إذا ما كان الطفل ينقصه الغذاء لا يطوِّر الذكاء الذي أتى به إلى العالم، الذكاء الكامن، ولكن إذا ما تم استخدام وسائل معينة استخداماً خاطئاً، فإنهم يرفعون عنه خيار التفكير، لأنهم يفكّرون عنك ويقولون لك أي هو اللون الذي يجب أن تستخدمه، وإن كانت التنورة طويلة أم قصيرة، وإن كان القماش الدارج هو كذا. يوجهون لنا رسالة من هناك حول ما ينبغي علينا استخدامه، وأي مرطّب نشرب، وأي نوع من الجعة نشرب، وأي ماركة من الويسكي أو من الروم. نحن لا يهمنا ذلك، فنحن، المنتجين التاريخيين للسيجار، ولا نستطيع التخلي عنه، وخاصة ما دمنا محاصَرين، عندما نقوم بتقديم علبة سيجار كهدية لصديق نقول له: " إذا كنت مدخّن، تستطيع التدخين منها؛ وإذا كان عندك صديق مدخِّن تستطيع أن تقدّم له منها، ولكن أفضل ما يمكنك فعله بهذه العلبة هو أن تقدّمها هدية لعدوّك" (تصفيق).
كوبا هي منتِجة ومصدِّرة للتبغ وتقوم بحملة لمكافحة التدخين؛ كوبا هي منتِجة لروم ذي جودة معينة –للتصرف بالتواضع اللازم؛ فقد سرقوا الآن منّا اسم ماركة، ولكن لا يهم، فلا يمكنهم إنتاج روم كوبي-، لا أنصح به، ولكن إذا كان بوسع أحد أن يجرّبه… ما أنصح به السيدات الحوامل هو ألا تستهلكنه، ألا تستهلكن الكحول. نعرف ذلك لأننا نقوم بدراسة جميع أسباب كل واحدة من حالات التخلف العقلي ونعلم بأن الضرر الذي ينزله الكحول بسيدة حامل، إنه أحد الأسباب.
ولكن، حسناً، ستعيش البلاد، ليس في مجتمع استهلاكي؛ فالمجتمع الاستهلاكي هو من أسوأ اختراعات الرأسمالية المتطورة والتي هي اليوم في مرحلة العولمة الليبرالية. إنه مشؤوم، لأنني أحاول أن أتخيّل مليون و300 ألف صيني بمستوى الدراجات النارية والسيارات الذي تتمتع به الولايات المتحدة.
لا أستطيع أن أتصور الهند، بعدد سكانها البالغ ألف مليون، تعيش في مجتمع استهلاكي؛ لا أستطيع أن أتصور ال 520 مليون شخص الذين يعيشون في جنوب الصحراء الأفريقية، الذين لا يتمتعون ولا حتى بكهرباء، وفي بعض الأماكن يجهل أكثر من 80 بالمائة منهم القراءة والكتابة، في مجتمع استهلاكي. من شأني أن أبدأ بالتساؤل كم ستدوم آبار النفط، التي تم التحقق ويمكن التحقق أنه بالوتيرة التي نستهلكه بها اليوم بالكاد سيكون كافياً لمائة وخمسين سنة أخرى، وهو ما احتاجت الطبيعة لثلاثمائة مليون سنة لتكوينه (تصفيق).
إنني أتكلم هكذا، لأنه قد تم إدخال فكرة مفهوم زائف لجودة الحياة في رؤوسنا.
كيف يمكن ن تكون هناك جودة حياة بدون تعليم؟ كم تبلغ معاناة أي أمي! لا يتصور ذلك أحد؛ فهناك شيء اسمه اعتبار للنفس، وهو أمر أهم حتى من الغذاء، اعتبار النفس (تصفيق).
ماذا يعني أمّي؟، إنه في آخر الدرجات السفلية، عليه أن يطلب من صديق أن يصيغ له رسالة لخطيبته. لقد شاهدت ذلك وأنا طفلاً، في مكان كان يعيش فيه كثيرون من الأميين وعدد قليل ممن كانوا يعرفون القراءة والكتابة، فيطلبون منهم أن يكتبوا لهم رسالة لامرأة يحبونها؛ وليست المسألة أن يملي عليه رسالة تقول بأنه قد حلم بها طوال الليل وأنه ما زال يفكّر بها وأنه لا يتناول الطعام بسبب تفكيره بها، مثلاً، إذا أراد الفلاح أن يبعث هذه الرسالة؛ وإنما كان يقول للذي يعرف القراءة والكتابة: "لا، لا، أكتب لها أنت ما ترى من المناسب كتابته لها"، من أجل غزو قلب حبيبته. ولا أبالغ. لقد عشت في أرياف كانت الأمور فيها هكذا.
يا له من إذلال الاضطرار للبصم بالإصبع! أولئك الذين اجتازوا الصف الثاني، الثالث، الرابع أو الخامس، ماذا يعني شخص وصل إلى الصف الرابع أو الخامس؟
ثم يقولون هناك في الولايات المتحدة بأنه توجد ديمقراطية، ولكنني أتساءل، ما دام ملايين الأشخاص أميين، انطلاقاً من أي وجهة نظر يدلون بأصواتهم: وما دام الملايين هم شبه أميين، انطلاقاً من أي وجهة نظر يدلون بأصواتهم (تصفيق).
إذن، جميعكم أنتم سمعتم عن "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين" (ALCA)، وأنا طرحت سؤالاً في قرارة نفسي، وماذا لو خطر على بالهم أن يقولوا بأن "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين" هي المخلّصة من كل الآلام ومن كل الكوارث؟ (يصفّرون). أي، كيف يمكن أن يقرر شخص لا يعرف القراءة ولا الكتابة، أو بالكاد وصل إلى الصف الرابع أو الخامس أو السادس، ما هي عليه "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين"؛ ماذا يعني فتح حدود كل البلدان التي لديها مستوى أدنى بكثير من التطور التقني أمام منتجات أولئك الذين يتمتعون بأرفع المستويات التكنولوجية والمستويات الإنتاجية، أولئك الذين يصنعون آخر موديلات الطائرات، أولئك الذين يسيطرون على الاتصالات العالمية، أولئك الذين يريدون أن يضمنوا منّا ثلاثة أمور: مواد أولية وقوة عمل رخيصة، وبالإضافة لذلك، زبائن (تصفيق).
كيف يمكن لمواطنين لا تعرف نسبة عالية منهم القراءة والكتابة، وليس لديهم فكرة عن الاقتصاد، أن يفهموا ما يعنيه التخلي عن العملة الخاصة؟ التخلي عن العملة، وقد فعل بعضهم ذلك بنفس هادئة.
لو أن بلدنا تخلى عن عملته، لما كان بمقدوره أن يذلل الصعوبات التي ذللها، وخاصة اعتباراً من تلك التي نسميها "فترة خاصة"، عندما انهار المعسكر الاشتراكي. لم نتخلى أبداً.
كيف سيفسرون ظاهرة فرار رؤوس الأموال؟ ماذا يعني بالنسبة لهم؟، إذا كان هناك من أمر بالغ الوضوح ويستطيع أن يراه أعمى منذ ولادته هو أن عملات بلداننا هي مجبرة على الفرار وهي مجبرة على الهرب، سواء تم كسبها حلالاً أو حراماً.المهني الذي جمع خمسين ألف أو مائة ألف دولار ويملكها بعملة بلاده، وفجأة تقع تلك العملة، بفعل قانون الجاذبية، الذي اكتشفه نيوتون، في الولايات المتحدة –وهذا هو نوع من قوانين الجاذبية الجانبية، ليس باتجاه وسط الأرض، وإنما باتجاه جغرافي (تصفيق)-، وعليها أن تفر لأنه ليس بمقدور عملتنا أن تحافظ على ما يسمى تساوي القيمة.
صحيح أنه عبر مكافحة التضخم، وهو المصادرة المنتظمة وشبه اليومية، شقت طريقها بعض الصيغ والوعود. وإلى جانب ذلك، صرف العملات الحر الشهير جداً، الذي يشق الطريق أمام فرار الأموال.
بالكاد يظهر عجز في الموازنة أو عجز في ميزان المدفوعات حتى ترى على الفور بأن المشكلات قد نشأت؛ حتى بدون المضاربين، الذين يساعدون على ذلك لأنهم يجدون في ذلك فرصة ذهبية ويأخذون الأموال.
هناك معلومات عن الأموال التي تفر، أياً كان مصدرها، وهو أمر لا صلة له بالدين ولا بالفوائد الربوية للديون، وإنما له صلة بقانون فرار العملات الضعيفة هذا.
كان الذهب خلال مدة من الزمن عملة، وكانت له قيمة بحد ذاته، وحتى أنه ظل كذلك حتى عام 1971 و 1972، حين قرر رئيس القوة العظمى المهيمِنة –مع أنها لم تكن بعد هيمنة أحادية الجانب-إلغاء تحويل العملة الورقية الأمريكية إلى ذهب. تحولت العملة آنذاك إلى ورق، لم يعد لها قيمة بحد ذاتها، فكان يطبعها أصحاب الآلات التي يُطبع فيها الدولار.
وإلى أين يذهب الدولار؟ لا يذهب إلى الكاريبي. حسناً، يمكن أن يكون هناك جزيرة صغيرة ذات فردوس مالي، ولكنها حالات استثنائية (تصفيق). حسناً، إلى أين يذهب؟ لا يذهب إلى أفريقيا، ولا يذهب إلى بلد أمريكي لاتيني مجاور، لأنه يحصل لكل البلدان ذات الشيء بالضبط.
يمكن أن يكون عندك عملة اسمها "أكس" (X)، لن أذكرها، تعادل قيمتها قيمة الدولار –المسألة هي أنني لا أريد أن أذكر اسم أي بلد-، ويمكن لقيمتها أن تبلغ خلال ستة أسابيع النصف أو الثلث، وإذا ما كانت عندك سندات، وكانت فعلية من حيث قدرتها الشرائية، عندما تحدث هذه الظاهرة ينخفض السند البالغة قيمته ثلاثين إلى الثلث أو إلى 25 بالمائة أو أكثر.
عندما ترى بأن بعض العملات تبلغ قيمتها مئات البيسوات مقابل الدولار الواحد، لا ينبغي النسيان أنها كانت خلال فترة زمنية معينة تعادل قيمة الدولار. وهذا ما رأيناه يحدث لبعض العملات في هذه الأيام، سواء كان اسمها "أكس" أو كان اسمها بوليفار –لن يأخذ شافيز على خاطره تجاهي لذكري البوليفار، لأنه يعرف تماماً كيف تنخفض قيمة جميع عملاتنا-؛ ثم تجد نفسها مضطرة للفرار، التوجه إلى بنوك البلد الأغنى في العالم.
لاحِظوا، إنه مجرد مصطلح، كيف سنشرحه لشخص أمّي؟ كيف سنشرحه لإنسان ما أنجزه من تعليم هو الصف السادس؟ كيف يمكن لإنسان لا يتمتع بالحد الأدنى من المعارف الاقتصادية أن يعلم هذه الأمور؟ يستطيعون بيعهم "منطقة تجارة حرة خاصة بالأمريكتين" وعشر مناطق تجارة حرة خاصة بالأمريكتين (تصفيق). من هنا تأتي الحاجة لزرع الوعي، زرع الأفكار، التعليم، لأن الإنسان قادر على الفهم عندما تشرح له وعبر أمثلة. يتم اليوم استخدام هذا الجهل كأداة لنهبنا بشكل أكبر يوماً بعد يوم، واستغلالنا على نحو أكبر، وخداعنا على نحو أكبر.
ولهذا نحن، وكما شرحنا في الأول من أيار/مايو، طورنا في بلدنا برنامجاً لتعليم القراءة والكتابة عبر الإذاعة –لا أقول عبر التلفزيون-، عبر الإذاعة، كل ما يحتاجه المستمع هو مذياع يستقبل البث على الموجة القصيرة وبضع أوراق. المنهاج متوفر وقد خضع للتجربة، يمكن بثه عبر شبكة إذاعية وطنية أو عبر شبكات محلية؛ أصبح هناك بعض البلدان التي بدأت القيام بذلك. بل وأن بلدنا يستطيع عبر الموجة القصيرة تعليم القراءة والكتابة حتى لبعض أمّيّي الولايات المتحدة (تصفيق).
قرأنا قبل أيام قليلة عن عدد يبلغ آلافاً من تلاميذ المدارس العامة ممن أنجزوا الصف الرابع وحتى الصف التاسع ولا يعرفون القراءة. أي نوع من التعليم يلقنونهم يا ترى؟ كيف يمكن أن يكون 36 عدد التلاميذ في الصف الواحد هناك، في ميامي، حيث لديهم مناطيد وحيث أقلعوا طائرات من أجل فرض بث تلفزيوني من قبيل القرصنة على بلدنا، حيث يخصّص أكثر من نصف الساعات اليوم للتعليم؛ ساعات كثيرة كانت فارغة، بل ومن أجل ادخار المحروقات.
افتتحنا قبل أيام قليلة ثالث قناة تلفزيونية، وهي من أجل التعليم، كما أعلنا بأنه في الفصل الأول من العام المقبل سيكون هناك قناة تلفزيونية رابعة مكرسة للتعليم. التلفزيون هو طريقة حقيقية وليست معروفة لنقل المعارف بشكل جماعي (تصفيق). وهناك طرق أخرى، لن أذكرها الآن، ذات فاعلية لا تصدّق، لن أذكر لماذا. ولكن هناك إمكانيات آخذة بالنشوء.
لقد عرضنا علناً، في الأول من أيار/مايو، على سيد اليونيسكو وعلى أي بلد كان هذا الحق بالامتياز، إن جاز القول، هذه الصيغة، بشكل مجاني: برنامج تعليم القراءة والكتابة عبر الإذاعة.
نعرف أيضاً تقنيات تعليم القراءة والكتابة عبر التلفزيون، ولكن ما يحصل هو أن عدداً كبيراً من الأميين لا يملكون كهرباء، ولا يملكون تلفازاً.
كان يوجد في بلدنا أكثر من ألفين وثلاثمائة مدرسة في الريف تفتقد للكهرباء، وحلّينا هذه المشكلة عبر أطباق شمسية متواضعة بحجم 1.2 متر مربع، ولا تتجاوز قيمتها ال 1123 دولاراً (تصفيق)؛ وهكذا فإنه بواسطة أقل من أربعة ملايين دولار، دقِّقوا، وفرنا الطبق الشمسي لكل تلك المدارس، سواء كان لجهاز الاستقبال التلفزيوني الذي لا يستهلك إلا 6 واط أو لجهاز الكمبيوتر، الذي لا يكفيه الكيلواط الواحد العائد من الطبق عندما يكون هناك عدد أكبر من الأطفال، وبالتالي يتوجب وضع طبقين، ولهذا أقول أنه بواسطة أقل من أربعة ملايين دولار وفرنا الكهرباء لجميع المدارس الريفية في البلاد؛ وليس الكهرباء من أجل الطبخ، وإنما لجهاز الاستقبال التلفزيوني ولجهاز الكمبيوتر (تصفيق).
لقد وفّرنا في موعد حديث العهد إمكانية مشاهدة التلفزيون لنصف مليون كوبي يعيشون في مناطق ريفية لم يكن لديهم جهاز استقبال تلفزيوني، وذلك عبر 1885 داراً للفيديو، وخمسين كرسياً للقاعة الواحدة، وطبق شمسي بكلفة 1900 دولار، وذلك بنفقة تقل أيضاً عن أربعة ملايين دولار. الوصول إلى المعلومات والبرامج التلفزيونية، عبر جهاز استقبال تلفزيوني بحجم 29 بوصة، بتكلفة يمكن القول بأنها بالغة التفاهة، بالنسبة لآلاف الملايين التي يتم ذكرها باستمرار؛ حتى بلد محاصر على مدى سنوات كثيرة يستطيع فعل ذلك، فلا ينبغي وجود أي بلد عاجز عن فعله (تصفيق). لاحِظوا، إنني أذكر لكم معلومات دقيقة.
لقد أقمنا، وليس افتتحنا –فقد شرعت بسنتها الثانية-، جامعة للعلوم المعلوماتية بتلاميذ مختارين من بين أفضلهم في البلاد، سيلتحق بها ألفا طالب سنوياً؛ ولن يكونوا طبعاً الوحيدين، ويتم هناك تأهيل محللين أكثر من مبرمِجين.
حسناً، لن أذكر أموراً أخرى، ليس فقط بسبب عامل الوقت، وإنما لأن عندي الأمل بأن تتعرفوا إليها يوماً، وهو ما يقوم بتحويل بلدنا وما يفسح له إمكانية العيش بفعل الذكاء. لن يكون لهذا أي قيمة ولا أي أهمية إن لم نكن على قناعة عميقة بأن هذه المناهج يمكن جعلها جماعية، وبالتالي التخلص من هذه الملايين المخزية من الأشخاص الأميين الذين يجري الحديث عنهم منذ أربعين أو خمسين سنة ويمكن القضاء على هذه الظاهرة خلال خمس سنوات، بكل بساطة، وذلك لمجرد عقدت الأمم المتحدة عزمها عليه، أو عقدت منظمة اليونيسكو عزمها عليه. إن هذه المناهج تبلغ من الكلفة الزهيدة!. ثم يمكن أن تأتي بعد ذلك دورات المتابعة الصف الأول، الصف الثاني، الثالث، إنها إمكانيات لا نهاية لها.
كما يمكن التنافس مع السجون عبر زرع المدارس واستخدام أساليب بسيطة كهذه الأساليب (تصفيق). إنني على قناعة بأنه إذا ما تمكن بلد فقير من تأمين الأمور المتواضعة، ولكنها نزيهة، كريمة، لكل واحد من مواطنيه، لمَ لن تستطيع بلدان أخرى فعل ذلك؟ ولهذا السبب أتحدث لكم عن هذه المشكلات حتى بشيء من الشغف لأنها مشكلات فكرنا بها على مدى زمن طويل. واعترفت لكم بأنه عندما أصبح لنا شيئاً من هذه المعارف، نتيجة الملاحظة والتدقيق والدراسة المستمرة لوضع حياة المواطنين، كان لنا أن شعرنا كما قلت بالخجل لعدم تمكننا قبل هذا الموعد بكثير من اكتشاف هذه الأمور التي من شأنها أن توفر كل ما توفّره من رفاهية لمواطنينا.
نحن لا ننصح بصيغ عقائدية، لا نعير أنفسنا للنصح باعتناق هذا النظام الاجتماعي أو ذاك. أعرف بلداناً يبلغ ما تملكه من الموارد أنه لو تم استخدام الموارد بالشكل الملائم ما كان عندها الحاجة، دقِّقوا، ولا لإجراء تغيير ثوري فيما يتعلق بالاقتصاد، بصفة جذرية، كالتغيير الذي قام به بلدنا. نعرف ما يحدث في أماكن كأفقر الأمكنة في هذا الجزء من القارة، وهو هايتي، والمشكلات التي تعانيها من حيث الموارد الطبيعية، وبعض البلدان الأخرى الأكثر ثراء، لن أناقش حول هذا الموضوع؛ ولكن المشكلة تكمن في التوزيع المتكافئ للثروة (تصفيق وهتافات). لا يحتاج هذا الأمر ولا حتى للمصادرة؛ لا، ضمن مفهوم يسمح بما يمكن… لأنه يجب التفكير بما هو رغبة وما هو ممكن، يجب التمييز بين ما يمكن الحلم به وبين ما يمكن القيام به الآن، وما يمكن القيام به الآن وما يمكن القيام به بعد عشرين أو ثلاثين سنة، انطلاقاً من حقائق العالم الراهن.
لا نشعر نحنولا بذرّة من الندم على ما فعلنا حتى الآن في بلدنا وعلى الطريقة التي نظّمنا بها مجتمعنا (تصفيق). لقد أتيحت لنا الفرصة لكي نتعلّم الكثير حول إمكانياتنا ولدينا فكرة عن الأولويات، لأنه من الهام جداً بالنسبة للذين نتمنى عالم أفضل أن يكون لدينا فكرة عن الأولويات، عن الإمكانيات، عن الوقائع.
ذكرت لكم مرتين أو ثلاث مشروع "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين" (ALCA) الشهير. هناك حاجة ماسة وهائلة عند شعوبنا لمنع هذا السم من أن يحل في بلداننا ومن شأننا أن نحرز بتحقيق ذلك نصراً عظيماً (تصفيق وهتافات).
أستطيع أن أضيف لكم بأننا نرى في أمريكا اللاتينية حدوث حركة تقدم. إذا ما سئلت عن سبب شعوري بالارتياح الكبير والبهجة عندما وصلت الأنباء عن محصلة انتخابية في أرجنتيننا العزيزة (تصفيق وهتافات)، دقِّقوا، هناك سبب كبير جداً: أسوأ ما عند الرأسمالية الوحشية، كما يقول شافيز؛ أسوأ ما عند العولمة النيوليبرالية هو أن أفضل رمز لها… أنا لا أذكر اسماً، لا يستطيع أحد أن يتذمّر، إلا إذا شعر أحد بأنه رمز لما أقول. برأيي أن واحداً من الأمور ما فوق العادية هو أن رمز العولمة النيوليبرالية قد تلقى ضربة عملاقة (تصفيق وهتافات).
أنتم لا تتصورون الخدمة التي أسديتموها لأمريكا اللاتينية؛ لا تتصورون الخدمة التي قدمتموها للعالم مع دفنكم في مقبرة الهادئ –لا أعرف ما اسمها الآن-، التي يبلغ عمقها أكثر من ثمانية آلاف متر، رمز العولمة النيوليبرالية. لقد أعطيتم قوة هائلة للعدد المتزايد من الأشخاص الذين أخذوا يكتسبون الوعي في كل قارتنا الأمريكية حول هذا الأمر بالغ الهول والقاتل، وهو ما يسمى العولمة النيوليبرالية (تصفيق).
إذا أردتم يمكننا أن ننطلق مما قاله البابا في مرات كثيرة وعندما كان في زيارة لبلدنا، حين تحدث عن عولمة التضامن. هل من شأن أحد أن يكون ضد عولمة التضامن بكل ما ما تعنيه الكلمة من المعنى، لتشمل، ليس فقط العلاقات بين الأفراد رجالاً ونساءً داخل حدود بلد واحد، وإنما داخل حدود الكوكب، وأن يمارس هذا التضامن أيضاً أولئك الذين يبذّرون الأموال ويدمّرون ويسرفون الموارد الطبيعية ويحكمون بالموت على سكان هذا الكوكب؟ (تصفيق وهتافات).
لا يمكن الوصول إلى السماء في يوم واحد، ولكن صدِّقوني –لا أقول ذلك في سبيل الثناء، وأحاول أن أقوله بأكبر حذر ممكن- بأنكم وجّهتم ضربة غير عادية لرمز، ولهذا قيمة هائلة، وقد جاء بالذات في هذه اللحظة الحرجة، لحظة أزمة اقتصادية عالمية، للجميع ضلعاً بها؛ لم تعد الأزمة أزمة جنوب شرق آسيا، إنها أزمة في العالم، بالإضافة إلى تهديدات بالحرب، بالإضافة لعواقب ديون هائلة، بالإضافة لخطورة فرار الأموال. إن المشكلة عالمية، ولهذا يتبلور الوعي على مستوى عالمي أيضاً، ولهذا سيكون يوماً مجيداً هذا اليوم الذي أقدم فيها الشعب الأرجنتيني، بالرغم من الصعوبات، التي نعرف جميعاً بأنها موجودة هنا وفي أماكن أخرى، وفي أحيان كثيرة تفتُّت، وأحياناً كثيرة انقسامات، والانقسامات يمكن وجودها وحتى أنه لا بد من وجودها، ولكن المسألة أن هناك قدراً من الأمور ذات الاهتمام المشترك أنه يمكن للمرء أن يكون على قناعة بأن هذه المصالح يجب تسود، إنه العالم الممكن. دقّقوا بأن العبارة التالية اكتسبت قوة: وجود عالم أفضل هو أمر ممكن. ولكن عندما يتحقق عالم أفضل، وهو ممكن، علينا أن نواصل التكرار: وجود عالم أفضل هو أمر ممكن، ثم نكرر مجدداً فيما بعد: وجود عالم أفضل هو أمر ممكن (تصفيق وهتافات تحيي فيدل كاسترو) .
لقد حدّثتكم –وأنا أوشك على الانتهاء-، ضمن هذه الظروف الخاصة، ويسعدني هذا أكثر، عن التجربة المتواضعة لبلدنا، وكيف أننا أخذنا نتعلم يوماً بعد يوم أموراً جديدة وأموراً جديدة، وعندما كنّا نكافح ثلاثين بالمائة من الأميّة، كم كنّا بعيدين عن التفكير بأننا سنعكف يوماً على توسيع الدراسات الجامعية لتصبح جماهيرية مع نشر الجامعات في جميع بلديات البلاد، انطلاقاً من الرأسمال البشري الذي كنا قد وفّرناه، والذي كان من شأن هذا التطلع أن يكون مستحيلاً بدونه، ولهذا قلت، وكان مارتيه قد قال قبل سنوات كثيرة، بأنه كان يقول للذين يسمونه حالماً بأن أحلام اليوم هي حقائق الغد (تصفيق وهتافات).
لا وجود للحالمين، يقول لكم ذلك حالمٌ كان له امتياز رؤية حقائق كان عاجزاً عن أن يحلم بها. أنا لا أعتبر هذا فضيلة، وإنما هو أيضاً امتياز وقدراً وافر الحظ بالحياة، رغم مئات المحاولات لتعجيل رحلتي إلى القبر (هتافات)، وبذلك أسدوا لي خدمة هائلة، وهو إرغامي على أن أفقد كل غريزة للوقاية وأن أعرف بأن القيم نعم تشكل جودة الحياة الحقيقية، جودة الحياة الأسمى، حتى ما يتجاوز الغذاء والسقف والملبس. لا أقلل بالتأكيد من أهمية الحاجات المادية، فيجب وضعها دائماً في المقام الأول، لأنه في سبيل الدراسة، في سبيل اكتساب جودة الحياة الأخرى لا بد من تلبية احتياجات معينة هي مادية، محسوسة؛ ولكن جودة الحياة تكمن في المعارف، في الثقافة.
عندما يفرغ إنسان من عمله يريد أن يذهب إلى مكان لمشاهدة فيلم جيد، أو إلى مسرح لمشاهدة مسرحية جيدة، أو لعرض راقص أو فرقة موسيقية. بعدما يتناول فطوره وغداءه، ما يرغب به هو هذا الترفيه، الترويح عن النفس. لا يودّ أحد أن يتسلى أبناءه أو يتلهّون باستهلاك المخدرات، أو بمشاهدة عنف وأمور غير منطقية تسمم عقل هذا الطفل (تصفيق)، جودة الحياة هي شيء آخر، جودة الحياة هي حسّ وطني، جودة الحياة هي كرامة، جودة الحياة هي شرف (تصفيق وهتافات)؛ جودة الحياة هي اعتبار النفس الذين يتمتع جميع أبناء البشر بحق الاستمتاع به (تصفيق وهتافات).
أيها الأرجنتينيون جميعاً، أيها الأخوة الأعزاء في أمريكا اللاتينية، مهما كانت عقيدتكم، أو فكركم أو أفكاركم، لم يكن عندي النية على أن أجرح أحداً أو أسيء إليه. إذا ما اعتبر أحد بأن في بعض المفاهيم التي عبرت عنها هنا شيئاً من التدخل في الشؤون الأرجنتينية، وهو أمر تفاديته، وخاصة اعتباراً من التضامن ما فوق العادي والحرارة اللذين تم استقبالي بهما في هذه المدينة وفي هذا البلد، إذا ما اعتقد أحد ذلك، أطلب منه بكل صدق أن يعذرني.
عاشت الأخوّة بين الشعوب! (هتافات: "عاشت!")
عاشت الإنسانية! (هتافات: "عاشت!")
حتى النصر دائماً!
شكراً.
(تصفيق حاد)